التفاسير

< >
عرض

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ
٨٨
أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً
٨٩
-طه

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ }.
قال ابن عباس: أوقد هارون ناراً وقال: اقذفوا ما معكم فيها فألقوا فيها، ثم ألقى السامريُّ ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل - عليه السلام -.
قال قتادة: كان قد صيَّر قبضة من ذلك التراب في عمامته، { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ }.
واختلفوا هل كان ذلك الجسد حيًّا أم لا؟
فقيل: لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صوًّر صورة على شكل العجل، وجعل فيها منافذ وتخاريق بحيث تدخل فيها الرياح، فيخرج صوت يشبه صوت العِجْل.
وقيل: إنَّه صار حياً، وخار كما يخور العِجْل، لقوله:
{ { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ } [طه: 96]، ولو لم يصر حيًّا لما بقي لهذا الكلام فائدة، ولأنه تعالى سماه عجلاً، والعِجْل حقيقة هو الحيوان، وسماه جسَداً وهو إنما يتناول الحي.
وأثبت له الخوار.
وأما ظهور خارق العادة على يد الضال فجائز، لأنه لا يحصل الالتباس وهاهنا كذلك فوجب أن لا يمتنع.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون - عليه السلام - مرَّ بالسَّامريِّ وهو يصنع العجل، فقال ما تصنع؟ فقال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال: اللهم أعطه ما سأل، فلما مضى هارون، قال السامريُّ اللهم إني أسألك أن تجعل له خواراً.
وفي رواية: فألقى التراب في فم العجل، وقال: كُنْ عِجْلاً يخور، فكان كذلك يدعوه هارون وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزاً للنبي.
قوله: { فَقَالُواْ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىٰ } وهاهنا إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض فهم مجانين، وليسوا مكلفين، ولأن هذا محال على مثل ذلك الجمع العظيم، وإن لم يعتقدوا ذلك، فكيف قالوا: { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىٰ }؟
وجوابه لعلهم كانوا من الحلولية: فجوزوا حلول الإله وحلول صفة من صفاته في ذلك الجسم، وإن كان ذلك أيضاً في غاية البعد، لأن ظهور الخوارق لا يناسب الإلهية، ولكن لعل القوم في نهاية البلادة.
قوله: "فَنَسِي" قرأ العامة بكسر السين. وقرأ الأعمش بسكون السين، وهي لغة فصيحة والضمير في "نَسِيَ" يجوز أن يعود على السَّامِريّ"، وعلى هذا قيل: إنه من كلام الله تعالى، كأنه أخبر عن السامري أنه نَسِيَ الاستدلال على حدوث الأجسام، وإنَّ الإلَه لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء، ثم إنه تعالى بيَّن المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله: { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي: لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر لا يكون إلهاً، ولا يكون للإله تعلق بالحالية (والمحلية).
ويجوز أن يعود على "مُوسَى" وعلى هذا قيل: هذا قول السامري، والمعنى أن هذا إلهكم وإله موسى، فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين. وقيل: فنسي وقت الموعد في الرجوع.
قوله: { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي: أن العجل لا يكلمهم، لا يجيبهم إذا دعوه، { وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً }. وهذا استدلال على عدم أنه إله بأنه لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر. وهذا يدل على أن الإله لا بد وأن يكون موصوفاً بهذه الصفات، وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم - عليه السلام -
{ { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [مريم: 42] وأن موسى - عليه السلام - في الأكثر لا يعول إلى على دلائل إبراهيم (عليه السلام).
قوله: { أَلاَّ يَرْجِعُ } العامة على رفع "يَرْجِعُ" لأنها المخففة من الثقيلة، ويدل على ذلك وقوع أصلها وهو المشددة في قوله:
{ { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ } [الأعراف: 148].
قال الزجاج: الاختيار الرفع بمعنى: أنه لا يرجع كقوله:
{ { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [المائدة: 71] بمعنى: أنه لا تكون.
وقرأ أبو حيوة والشافعي (رضي الله عنه) وأبان بنصبه، جعلوها الناصبة.
والرؤية على الأولى يقينية، وعلى الثانية بصرية، وقد تقدم تحقيق هذين القولين (في المائدة).
والسَّامريُّ: منسوب لقبيلة يقال لها سامرة.
فصل
دلَّت الآية على وجوب النظر في معرفة الله تعالى، وقال في آية أخرى
{ { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُم وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } [الأعراف: 148]، وهو قريب من قوله في ذم عبدة الأصنام { { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [الأنبياء: 63]، أي لو كان يكلمهم لكان إلهاً، والشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، وفوات واحد منها يقتضي فوات المشروط، وحصول الواحد منها لا يقتضي حصول المشروط.
قال بعض اليهود لعليٍّ - رضي الله عنه - ما دَفَنْتُم نَبيَّكُمْ حتَّى اختلفتم.
فقال: اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه، وأنتم ما جفَّت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعَلْ لَنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة.