التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ
٤٢
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ
٤٣
بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ
٤٤
-الأنبياء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُمْ } الآية لما بين أن الكفار في الآخرة { { لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِم ٱلنَّارَ } [الأنبياء:39] بسائر ما وصفهم به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة، فقال لرسوله: "قُلْ" لهؤلاء الكفار الذين يستهزئون ويغترون بما هم عليه { مَن يَكْلَؤُكُم بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه: من ينصرك مني؟ وهل لك مخلص؟
والكلاءة: الحفظ، أي يحفظكم بالليل والنهار "مِنَ الرَّحْمَـنِ" إن نزل بكم عذابه. يقال: كَلأَهُ الله يَكْلَؤُهُ كِلاَءَةً بالكسر كذا ضبطه الجوهري فهو كالىء ومكلوء.
قال ابن هرْمة:

3717- إنَّ سُلَيْمَى وَاللهُ يَكْلَؤُهَا ضَنَّتْ بِشَيءٍ مَا كَانَ يَزْرَؤُهَا

واكْتَلأْتُ منه: احترست، ومنه سُمِّيَ النبات كلأ، لأنَّ به تقوم بنية البهائم وتحرس. ويقال: بلغ الله بك أكلأ العمر. والمُكَلأُ موضع يحفظ فيه السفن. وفي الحديث: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الكَالِىء بَالكَالِىء" أي: بيع الدين بالدين كأنَّ كُلاًّ من رب الدينين يكلأ الآخر أي: يراقبه.
(وقال ابن عباس: المعنى: مَنْ يمنعكم من عذاب الرحمن.
وقرأ الزهري وابن القعقاع "يَكْلُوكُمْ" بضمة خفية دون همز.
وحكى الكسائي والفراء "يَكْلَوْكُمْ" بفتح اللام وسكون الواو.
قال شهاب الدين: ولم أعرفها قراءة. وهو قريب من لغة من يخفف أكلت الكلأ على الكلو وقفاً إلا أنه أجرى الوصل مجرى الوقف).
قوله: "مِنَ الرَّحمنِ" متعلق بـ "يَكْلَؤُكُم" على حذف مضاف أي من أمر الرحمن أو بأسه كقوله:
{ { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 11]. "وبِاللَّيْلِ" بمعنى في الليل، وإنما ذكر الليل والنهار، لأن كل واحد من الوقتين آفات تختص به، والمعنى: من يحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في معاشكم.
وخص هاهنا اسم الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالىء يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك كما في قوله:
{ { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } [الانفطار: 6]. فخص اسم الكريم تلقيناً. قوله: "بَلْ هُمْ" إضراب عما تضمنه الكلام الأول من النفي، إذ التقدير: ليس لهم كالىء ولا مانع غير الرحمن. والمراد بـ "ذِكْرِ رَبِّهِمْ" القرآن ومواعظ الله "مُعْرِضُونَ" لا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالىء لهم سواه، ويتركوا عبادة الأصنام التي لا تحفظهم ولا تنعم عليهم.
قوله: { أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ } "أَمْ" منقطعة، أي بل ألهم؟ فالميم صلة والمعنى: ألهم آلهة تمنعهم، وقد تقدم ما فيها.
وقوله: "من دُونِنَا" فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق بـ "تَمْنَعُهُمْ" قبل، والمعنى: ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز، وإلى هذا ذهب الحوفي.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف، لأنه صفة لـ "آلهة"، أي آلهة من دوننا تمنعهم، ولذلك قال ابن عباس إن في الكلام تقديماً وتأخيراً.
ثم وصف الآلهة بالضعف فقال: { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ } وهذا مستأنف لا محل له، ويجوز أن يكون صفة لـ "آلهة"، وفيه بعد من حيث المعنى.
قال ابن الخطيب: "لا يستطيعون" خبر مبتدأ محذوف، أي فهذه الآلهة لا تستطيع حماية أنفسها عن الآفات، وحماية النفس أولى من حماية الغير، فإذا لم تقدر على حماية نفسها فكيف تقدر على حماية غيرها.
قوله: { وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ }. قال ابن عباس: يجاورون، تقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير عنه. وقال مجاهد: يُنْصَرُونَ. وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير. { بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاَءِ } الكفار "وَءَابَاءَهُمْ" في الدنيا، أي أمهلناهم. وقيل: أعطيناهم النعمة. { حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ } أي امتد بهم الزمان فاغتروا. { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِن أَطْرَافِهَا } أي: أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في أنا ننقص الأرض من جوانبها نأخذ الواحد بعد الواحد من المشركين ونفتح البلاد والقرى من حول مكة، ونزيدها في ملك محمد، أما كان لهم عبرة في ذلك فيؤمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "أَفَهُمُ الغَالِبُونَ" أم نحن، وهو استفهام تقريع.
قال ابن عباس ومقاتل والكلبي: "نَنقُصُهَا" بفتح البلدان. وروي عن ابن عباس رواية أخرى: المراد نقصان أهلها. وقال عكرمة: تخريب القرى وموت أهلها.
وقيل: موت العلماء، وهذه الرواية إن صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يعدل عنها وإلا فالأظهر هاهنا ما يتعلق بالغلبة، ولذلك قال: "أَفَهُمُ الغَالِبُونَ". قال القفال: نزلت هذه الآية في كفار مكة، فكيف يدخل فيها العلماء والفقهاء.