التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ
٤٥
وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يٰويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٤٦
وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ
٤٧
-الأنبياء

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ } أي: أخوفكم بالقرآن وقوله: "وَلا يَسْمَعُ" قرأ ابن عامر هنا "وَلاَ تُسْمِعُ" بضم التاء للخطاب وكسر الميم، "الصُّمَّ الدُّعَاءَ" منصوبين. وقرأ ابن كثير في النمل والروم. وقرأ باقي السبعة بفتح ياء الغيبة والميم "الصُّمُّ" بالرفع "الدُّعَاءَ" بالنصب في جميع القرآن.
وقرأ الحسن كقراءة ابن عامر إلا أنه بياء الغيبة. وروى عنه ابن خالويه "وَلاَ يُسْمَعُ" بياء الغيبة مبنياً للمفعول "الصُّمُّ" رفعاً "الدُّعَاءَ" نصباً.
وروي عن أبي عمرو بن العلاء "وَلاَ يُسْمِعُ" بضم الياء من تحت وكسر الميم "الصُّمَّ" نصباً "الدُّعَاءُ" رفعاً.
فأما قراءة ابن عامر وابن كثير فالفاعل فيها ضمير المخاطب، وهو الرسول - عليه السلام -. فانتصب "الصُّمَّ" و "الدُّعَاءَ" على المفعولين، وأولهما هو الفاعل المعنوي.
وأما قراءة الجماعة فالفعل مسند للصّمّ فانتصب "الدُّعَاءَ" مفعولاً به. وأما قراءة الحسن الأولى فأسند الفعل فيها إلى ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي كقراءة ابن عامر في المعنى. وأما قراءته الثانية فأسند الفعل فيها إلى "الصُّمم" قائماً مقام الفاعل، فانتصب الثاني وهو "الدُّعَاءَ" وأما قراءة أبي عمرو فإنه أسند الفعل فيها إلى الدعاء على سبيل الاتساع وحذف المفعول الثاني للعلم به، والتقدير: ولا يسمع الدعاء الصم شيئاً البتة ولما وصل أبو البقاء إلى هنا قال: "وَلاَ يَسْمَعُ" فيه قراءات وجوهها ظاهرة ولم يذكرها. و "إذَا" في ناصبه وجهان:
أحدهما: أنه "يَسْمَعُ".
والثاني: أنه "الدّعاء" فأعمل المصدر المعرف بـ (أل) وإذا أعملوه في المفعول الصريح ففي الظرف أولى.
قال الزمخشري: فإن قلت: الصم لا يسمعون دعاء المبشّر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل: { إِذَا مَا يُنذَرُونَ }؟ قلت: اللاّم في "الصُّم" عائدة إلى هؤلاء المنذرين كائنة للعهد لا للجنس، والأصل: ولا يسمعون إذا ما ينذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدهم أسماعهم إذا أنذروا، أي أنتم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامّ عن الإنذار والآيات. ثم بيَّن تعالى أن حالهم سيتغير إلى أن يصيروا بحيث إذا شاهدوا اليسير مما أنذروا به، فعنده يسمعون ويعتذرون ويعترفون حيث لا ينتفعون، وهذا المراد بقوله: { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } وأصل النفح من الريح: اللين. قال الزمخشري: في المس والنفحة ثلاث مبالغات، لفظ المس، وما في النفح من معنى القلّة والنزارة يقال: نفحته الدابة: رمحته رمحاً يسيراً. والنفح: الخطرة. قال ابن عباس: "نَفْحَةٌ" طرف. وقيل: قليل: وقال ابن جريج: نصيب من قولهم: نفح فلان لفلان من ماله أي: أعطاه حظاً منه، قال:

3718- إِذَا رَيْدَةٌ مِنْ حَيْثُ مَا نَفَحَتْ لَهُ أَتَاهُ برَيَّاهَا خَليلٌ يُوَاصِلُهْ

وقيل: ضربة، من قولهم: نفحت الدابة برجلها، أي: ضربت.
و "مِنْ عَذَابِ" صفة لـ "نَفْحَةٌ".
ثم بيّن تعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلاّ عدلاً فيهم بقولهم: { لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي: مشركين دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقروا بالشرك.
قوله: { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ } قال الزجاج: ذوات القسط، ووَضْعُها إحضارها. (وإنما جمع "المَوَازِينَ" لكثرة من توزن أعمالهم، وهو جمع تفخيم. ويجوز أن يرجع إلى الموزونات). وفي نصب "القِسْطَ" وجهان:
أحدهما: أنه نعت للموازين، وعلى هذا فلم أُفردَ؟ وعنه جوابان:
أحدهما: أنه في الأصل مصدر، والمصدر يوحّد مطلقاً.
والثاني: أنه على حذف مضاف.
الوجه الثاني: أنه مفعول من أجله أي: لأجل القسط، إلا أن في هذا نظراً، من حيث إن المفعول له إذا كان معرّفاً بـ (أل) يقل تجرّده من حرف العلة تقول: جئت للإكرام، ويقل: جئت الإكرام، كقوله:

3719- لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ

وقرىء: القِصْطَ بالصاد، لأجل الطاء. وقد تقدّم.
قوله: "لِيَوْمِ القِيَامَةِ" في هذه اللام أوجه:
أحدها: قال الزمخشري: مثلها في قولك: جئت لخمس خلون من الشهر ومنه بيت النابغة:

3720- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لها فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا العَامِ سَابِعُ

والثاني: أنها بمعنى (في) وإليه ذهب بن قتيبة وابن مالك وهو رأي الكوفيين ومنه عندهم: "لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا" وكقول مسكين الدارمي:

3721- أُوْلَئِكَ قَوْمِي قَدْ مَضَوا لسبيلِهِمْ كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْل عَادٌ وَتُبَّعُ

وكقول الآخر:

3722- وَكُلَّ أب وابن وإن عمرا معاً مقيمين مفقود لوقت وفاقد

والثالث: أنها على بابها من التعليل ولكن على حذف مضاف أي: لحساب يوم القيامة و "شَيْئاً" يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وأن يكون مصدراً، لأي: شيئاً من الظلم.
فصل
في وضع الموازين قولان:
أحدهما: قال مجاهد: هذا مثل، والمراد بالموازين العدل، ويروى مثله عن قتادة والضحاك، والمراد بالوزن: القسط بينهم في الأعمال، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه أي: ذهبت سيئاته وحسناته حكاه ابن جرير عن ابن عباس.
والثاني: أنَّ الموازين توضع حقيقة ويوزن بها الأعمال،
"روي عن الحسن أنه ميزان له كفتان ولسان وهو بيد جبريل - عليه السلام - يروى أنَّ داود - عليه السلام - سأل ربه أنْ يُرِيَه الميزان، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب فغشي عليه، ثم أفاق، فقال: إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، فقال: يا داود إنِّي إذا رضيت عن عبد ملأتها بتمرة" .
وعلى هذا القول في كيفية وزن الأعمال طريقان:
أحدهما: أن توزن صحائف الأعمال.
والثاني: أن يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل: أهل القيامة إمّا أن يكونوا عالمين بكونه - تعالى - عادلاً غير ظالم أو لا يعلمون ذلك. فإن علموا كان مجرد حكمه كافياً في معرفة أنَّ الغالب هو الحسنات أو السيئات فلا فائدة في وضع الميزان. وإن لم يعلموا ذلك لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف، لاحتمال أنه جعل إحدى الصحيفتين أثقل أو أخف ظلماً، فلا فائدة في وضع الميزان على كلا التقديرين.
والجواب: قال ابن الخطيب: أما على قولنا
{ { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [الأنبياء: 23] وأيضاً ففيه ظهور حال الولي من العدو في مجمع الخلائق، فيكون لأحد القبيلين في ذلك أعظم السرور والأخرى أعظم الغم، ويكون ذلك بمنزلة نشر الصحف وغيره. وإذا ثبت ذلك فالدليل على وجود الموازين الحقيقية أن حمل لفظ الميزان على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل غير جائز لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في ذلك.
قوله: { وَإِن كَانَ مِثْقَالُ } قرأ نافع هنا وفي لقمان برفع "مِثْقَال" على أن "كَانَ" تامة، أي: وإنْ وجد مثقال. والباقون بالنصب على أنها ناقصة واسمها مضمر، أي: وإنْ كان العمل. و "مِنْ خَرْدَلٍ" صفة لـ "حَبَّةٍ". وقرأ العامة "أَتَيْنَا" من الإتيان بقصر الهمزة أي: جئنا بها.
وفي حرف أُبَيّ "جِئْنَا". وكذا قرأ ابن مسعود، وهو تفسير معنى لا تلاوة. وقرأ ابن عباس ومجاهد وسعيد وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة، وجعفر بن محمد "آتَيْنَا" بمد الهمزة، وفيه أوجه:
أصحها: أنَّه (فَاعَلْنَا) من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة، والمعنى: جازينا بها، ولذلك تعدى بالباء.
الثاني: أنَّها (مفاعلة) من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء، قاله الزمخشري.
الثالث: أنه أفعل من الإيتاء، كذا توهم وهو غلط. قال ابن عطية: ولو كان آتينا: أعطينا لما تَعَدَّتْ بحرف جر، وَيُوهِنُ هذه لقراءة أنَّ إبدال الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف، وإنما يُعْرَف ذلك في المضمومة والمكسورة يعني: أنه كان من حق هذا القارىء أن يقرأ "وَأَتَيْنا" مثل وأعطينا، لأنها من المواتاة على الصحيح، فأبدل هذا القارىء الواو المفتوحة همزة وهو قليل ومنه أحد وأناة.
قال أبو البقاء: ويُقْرَأُ بالمد بمعنى جَازَيْنَا بها، فهو يَقْرُبُ من معنى أعطينا، لأنَّ الجزاء إعطاء، وليس منقولاً من أتينا، لأن ذلك لم يُنْقَلْ عنهم.
وقرأ حُمَيْدُ "أثَبْنَا" من الثواب، والضمير في "بِهَا" عائد على المثقال وأنّث ضميره لإضافته لمؤنث، فهو كقوله:

3723- كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ

في اكتسابه التأنيث بالإضافة.
فصل
زعم الجبائي أنَّ من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزءاً من الثواب فهذا الأقل ينحبط بالأكثر، فيبقى الأكثر كما كان. وهذه الآية تبطل قوله، لأن الله تعالى تمدح بأنَّ اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة. فإن قيل: الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال: { حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ }؟ فالوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار. والغرض المبالغة في أنَّ شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع عند الله. ثم قال: { وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ }.
قال السّديّ: مُحْصِينَ. والحَسبُ: معناه العد. قال ابن عباس: عالمين حافظين، لأنَّ من حسب شيئاً علمه وحفظه.
والغرض منه التحذير فإنَّ المحاسب إذا كان عالماً بحيث لا يمكن أن يفوته شيء، وكان في القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون شديد الخوف منه.