التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
٦٨
قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
٦٩
وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ
٧٠
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ
٧١
-الأنبياء

اللباب في علوم الكتاب

فلما ألزمهم الحجة وعجزوا عن الجواب { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ ءَالِهَتَكُمْ } ليس في القرآن من القائل ذلك، والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد: سمعت ابن عمر يقول: إنما أشار بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد من فارس.
روى ابن جريج عن وهب عن شعيب قال: إن الذي قال حرقوه اسمه هرين فخسف الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
فصل
قال مقاتل: لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا له بنياناً كالحظيرة، وذلك قوله:
{ { قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 97]. ثم جمعوا له الحطب الكثير، حتى إنَّ الرجل أو المرأة لو مرضت قالت: إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم. وقيل: بنوا آتوناً بقرية يقال لها كوثى.
ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوماً، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها، فتلقيه فيه احتساباً في دينها، فلما اشتعلت النار، واشتدت حتى أن كانت الطير لتمر به وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها. روي أنَّهم لم يعلموا كيف يلقوه فيها؟ فجاء إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه. وقيل: صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له: هيزن، وكان أول من صنع المنجنيق، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ثم عمدوا إلى إبراهيم - عليه السلام - فوضعوه فيه مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة صيحة واحدة: أي ربنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه: "إن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فانا أعلم به وأنا وَليُّهُ فخلوا بيني وبينه، فإنه خليل ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري".
فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال: إن أردت أخمدت النار. وأتاه خازن الرياح فقال: إن شئت طيرت النار في الهواء.
فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل.
قال ابن عباس:
{ { حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } [آل عمران: 173] قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قيل له: { { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ } [آل عمران: 173، 174] فحين ألقي في النار قال: "لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك". ثم رموه في المنجنيق إلى النار، فأتاه جبريل، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: فاسأل ربك قال: حسبه من سؤالي علمه بحالي. فقال الله تعالى: { يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }. قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفىء عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار. " وروت أم شريك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ وقال: كان ينفخ على إبراهيم" . وقال السُّدِّيّ: القائل { كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً } هو جبريل. وقال ابن عباس في رواية مجاهد: لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها، قال: ولم يبق يومئذ نار إلا طفئت، ولو لم يقل "عَلَى إِبْرَاهِيم" بقيت ذات برد أبداً. قال السدي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس، ولم تحرق النار منه لا وثاقه. وقال المنهال بن عمرو: أخبرت أنّ إبراهيم - عليه السلام - لما ألقي في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً، وقال: ما كنت أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها. قال ابن يسار: وبعث الله عز وجل ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه، وأتى جبريل بقميص من حرير الجنة وَطِنْفسَة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال: يا إبراهيم إنَّ ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي.
ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق، فناداه نمروذ: يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: قم فاخرج، فقام يمشي حتى خرج منها.
قال له نمروذ: من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك؟ قال: ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني، فقال له نمروذ: إني مُقَرِّب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك، وإنِّي ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال إبراهيم - عليه السلام - لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا، قال نمروذ: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها ثم كف عن إبراهيم.
روي أن إبراهيم - عليه السلام - ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وإنما اختاروا المعاقبة بالنار، لأنها أقوى العقوبات. وقيل: روي أن هاران أبا لوط قال لهم: إن النار لا تحرقه، لأنه سحر النار، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته، ففعلوا، فطارت شرارة في لحية أبي لوط فأحرقته.
قوله: "بَرْداً" أي: ذات برد. والظاهر في "سَلاَماً" أنه نسق على "بَرْداً" فيكون خبراً عن "كونِي". وجوَّز بعضهم أن ينتصب على المصدر المقصود به التحية في العرف وقد رُدَّ هذا بأنه لو قصد ذلك لكان الرفع فيه أولى، نحو قول إبراهيم: "سَلاَمٌ"، وهذا غير لازم، لأنه لا يجوز أن يأتي القرآن على الفصيح والأفصح، ويدل على ذلك أنه جاء مقصوداً، والمقصود به التحية نحو قول الملائكة: "قَالُوا سَلاَماً".
وقوله "عَلَى إبْرَاهِيمَ" متعلق بنفس إن قصد به التحية. ويجوز أن يكون صفة فيتعلق بمحذوف، وعلى هذا فيحتمل أن يكون قد حذف صفة الأول لدلالة صفة الثاني عليه تقديره: كوني برداً عليه وسلاماً عليه.
فصل
قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قولنا { قُلْنَا يَا نَارُ } المعنى: أنه سبحانه وتعالى جعل النار برداً وسلاماً لا أنَّ هناك كلاماً كقوله:
{ { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] أي: يكونه. واحتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه.
والأكثرون على أنه وجد ذلك القول، ثم هؤلاء لهم قولان:
أحدهما: قال السُّديِّ: القائل هو جبريل.
والثاني: قول الأكثرين إنَّ القائل هو الله تعالى، وهو الأقرب الأليق بالظاهر. وقوله: النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة.
فالجواب: لِمَ لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة.
فصل
اختلفوا في كيفية برد النار. فقيل: إن الله تعالى أزال ما فيها من الحرارة والإحراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق، والله على كل شيء قدير.
وقيل: إنه تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول النار إليه كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة، وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة، وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار. وقيل: إنه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه.
قال المحققون: والأول أولى، لأنَّ ظاهر قوله: { يَا نَارُ كُونِي بَرْداً } أي نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها. فإن قيل: النار إن بقيت كما كانت، والحرارة جزء من مسمى النار، وامتنع كون النار باردة، فإذن يجب أن يقال: المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجزاء مسمى النار، وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى. فالجواب: أن المجاز الذي ذكرناه يبقى معه حصول البرد وفي الذي ذكرتم لا يبقى ذلك، فكان مجازنا أولى.
فصل
معنى كون النار سلاماً على إبراهيم: أنَّ البرد إذا أفرط أهلك كالحر فلا بُدّ من الاعتدال، وهو من وجوه:
الأول: أن يقدر الله بردها بالمقدار الذي لا يؤثر.
والثاني: أنَّ بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد.
والثالث: أنه تعالى جعل في جسمه مزيدَ حرٍّ فانتفع بذلك البرد وَالتَذَّ بهِ.
فصل
روي أنّ كلّ النيران في ذلك الوقت زالت وصارت برداً، ويؤيد ذلك أنَّ النار اسم للماهية، فلا بُدّ وأنْ يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية وقيل: بل اختصت بتلك النار، لأنّ الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار، وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها، والمراد خلاص إبراهيم لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق. فإن قيل: أفيجوز ما روي من أنه لو لم يقل "وَسَلاَماً" لأتى البرد عليه. قال ابن الخطيب: ذلك بعيد، لأنَّ برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد، فلا يجوز أن يقال: كان البرد يعظم لولا قوله: "سَلاَماً".
قوله: { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } أي: أرَادُوا أن يكيدوه { فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ }.
قيل: معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم.
وقيل: فجعلناهم مغلوبين غالبوه فلقنه الله الحجة وقيل: أرسل الله على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ودخلت واحدة في دماغه فأهلكته.
قوله تعالى: { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إلى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } لما نصره الله تعالى أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجَّى لوطاً وهو ابن أخيه، وهو لوط بن هاران نجاهما من نمروذ وقومه من أرض العراق إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين يعني مكة، وقيل: أرض الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء.
وقال تعالى:
{ { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [الإسراء: 1] قال أُبي بن كعب: سماها مباركة، لأنّ ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس وروى قتادة أنّ عمر بن الخطاب قال لكعب: ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبره، فقال إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين أنّ الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده.
"وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم" قوله: "وَلُوطاً" يجوز فيه وجهان:
أحدهما:أَنْ يكونَ معطوفاً على المفعول قبله.
والثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً معه. والأول أولى.
وقوله: "إِلَى الأَرْضِ" يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بـ "نَجَّيْنَاهُ" على أن يتضمن معنى أخرجناه بالنجاة فلما ضمن معنى أخرج تعدى تعديته.
والثاني: أنه لا تضمين فيه وأنَّ حرف الجر يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في "نَجَّيْنَاهُ" أي: نجيناه منتهياً إلى الأرض كذا قدره أبو حيان وفيه نظر من حيث إنه قدر كوناً مقيداً وهو كثيراً ما يَرُدُّ على الزمخشري وغيره ذلك.
فصل
اعلم أنَّ لوطاً آمن بإبراهيم كما قال تعالى
{ { فَأَمَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت: 26] وكان ابن أخيه، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ، وآمنت به أيضاً سارة، وهي بنت عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم فخرج من كوشى من أرض حدود بابل بالعراق مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حَرَّان فمكث بها ما شاء الله، ثم ارتحل منها ونزل أرض السبع من فلسطين وهي برية الشام، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب، وبعثه الله نبياً، فلذلك قوله: { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيها لِلْعَالَمِينَ }.