التفاسير

< >
عرض

إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ
٩٢
وَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ
٩٣
-الأنبياء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً } الآية. قرأ العامة على رفع "أُمَّتُكُمْ" خبراً لـ "إنَّ"، ونصب "أُمَّةً واحِدَةً" على الحال، وقيل: على البدل من "هَذِهِ" فيكون قد فصل بالخبر بين البدل والمبدل فيه نحو: إنَّ زيداً قائمٌ أخاك. وقرأ الحسن "أمَّتَكُمْ" بالنصب على البدل من "هَذِهِ"، أو عطف البيان. وقرأ أيضاً هو وابن أبي إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وهارون عن أبي عمرو "أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ" بالرفع على خبر "إنَّ" و { أُمَّتُكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ } برفع الثلاث على أن يكون "أُمَّتُكُمْ" خبر "إنَّ" كما تقدم و "أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ" بدل منها بدل نكرة من معرفة، أو يكون "أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ" خبر مبتدأ محذوف ومعنى "أُمَّتُكُمْ" قال الزمخشري: الأمة الملة، وأشار إلى ملة الإسلام. "أمَّةً وَاحِدَةً" أي: ديناً واحداً وهو الإسلام غير مختلف، فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان. وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد. ثم قال: "وَأَنَا رَبُّكُمْ" أي: إلهكم فَاعْبدُونِ.
قوله: "وَتَقَطّعُوا" أي: اختلفوا، والأصل: وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريق الالتفاف، وكأنه ينفي عهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء، والمعنى: اختلفوا في الدين فصاروا فرقاً وأحزاباً.
قال الكلبي: وفرقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض. والتقطع هاهنا بمعنى: التقطيع.
قوله: "أَمَرَهُمْ" فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي: تفرقوا في أمرهم.
الثاني: أنه مفعول به، وعدى "تَقَطعُوا" لأنه بمعنى: قطعوا.
الثالث: أنه تمييز، وليس بواضح معنى، وهو معرفة، فلا يصح من جهة صناعة البصريين. قال أبو البقاء: وقيل: هو تمييز أي: تقطع أمرهم. فجعله منقولاً من الفاعلية. و "زُبُراً" يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً على أن تضمن (تقطعوا) معنى (صيروا) بالتقطيع. وإمَّا أن ينصب على الحال من المفعول، أي: مثل زبر، أي: كتب، فإنّ الزبر جمع زَبُور كرُسُل جمع رَسُول.
أو يكون حالاً من الفاعل، نقله أبو البقاء في سورة المؤمنين. وفيه نظر إذ لا معنى له، وإنما يظهر كونه حالاً من الفاعل في قراءة "زُبَراً" بفتح الباء أي فرقاً. والمعنى: صيروا أمرهم زبراً أي تقطعوه في هذه الحال، والوجهان مأخوذان من تفسير الزمخشري، لمعنى الآية الكريمة، فإن قال: والمعنى جعلوا أَمْر دِينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة، ويقتسمونه، فيصير لهذا نصيب، ولذلك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً وفي الكلام التفاف من الخطاب وهو قوله: "أُمَّتُكُمْ" إلى الغيبة تشنيعاً عليهم بسوء صنيعهم.
وقرأ الأعمش: "زُبَراً" بفتح الباء جمع زُبْرَة، وهي قطعة الحديد في الأصل ونصبه على الحال من ضمير الفاعل في "تَقَطَّعُوا" كما تقدم. ولم يتعرض له أبو البقاء في هذه السورة، وتعرض له في المؤمنين، فذكر فيه الأوجه المتقدمة، وزاد أنه قرىء "زُبْراً" بسكون الباء وهو بمعنى المضمومة.
قوله: { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } توعدهم بأن هذه الفرق المختلفة إليه يرجعون فيحاسبهم ويجازيهم بأعمالهم، قال عليه السلام:
"تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، فهلك سبعون وخلصت فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة، وقالوا: يا رسول الله من تلك الفرقة. قال: الجماعة الجماعة الجماعة" وبهذا الخبر بيّن أن المراد بقوله: { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ } الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات، وأن قول الرسول في الناجية إنّها الجماعة ليس تعريفاً للفرقة الناجية، إذ لا فرقة تمسكت بباطل أو بحق إلا وهي جماعة من حيث العدد، ولهذا طعن بعضهم في صحة الخبر، فقال: إنْ أراد بالاثنتين وسبعين فوقة أصول الأديان فلن يبلغ هذا القدر، وإن أراد الفروع فإنَّها تتجاوز هذا القدر إلى أضعاف ذلك. وقيل أيضاً ضد ذلك، وهو أنها كلها ناجية إلا فرقة واحدة.
والجواب: قال ابن الخطيب: المراد ستفترق أُمتي في حال ما وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال، ولأنه لا يجوز أن يزيد وينقص.