التفاسير

< >
عرض

فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ
٩٤
وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ
٩٥
حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ
٩٦
وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يٰوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
٩٧
-الأنبياء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } الآية. لمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الأُمَّةِ وتفرقهم، وأنهم راجعون إلى حيث لا أمر إلا له أتبع ذلك بقوله: { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } لا نجحد ولا نبطل سعيه.
والكفران مصدر بمعنى الكفر، قال:

3733- رَأَيْتُ أُنَاساً لاَ تَنَامُ خُدُودُهُمْ وَخَدِّي وَلاَ كُفْرَانَ لِلَّهِ نَائِمُ

و "لِسَعْيِهِ" متعلق بمحذوف، أي: نكفر لسعيه، ولا يتعلق بـ "كُفْرَانَ" لأنه يصير مطولاً، والمطول ينصب وهذا مبني. والضمير في "لَهُ" يعود على السعي. والمعنى: لا بطلان لثواب عمله، وهو كقوله: { { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [الإسراء: 19].
فالكفران مثل في حرمان الثواب، والشكر مثل في إعطائه.
فقوله: "فَلاَ كُفْرَانَ" المراد نفي الجنس للمبالغة، لأنَّ نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها. ثم قال: { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي: لسعيه كاتبون إمَّا في أم الكتاب، أو في الصحف التي تعرض يوم القيامة، والمراد من ذلك ترغيب العباد في الطاعات.
قوله تعالى: { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ } قرأ الأخوان وأبو بكر ورويت عن أبي عمرو "وَحِرْمُ" بكسر الحاء وسكون الراء وهما لغتان كالحِلّ والحَلاَل.
وقرأ ابن عباس وعكرمة "وحَرِمَ" بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم على أنه فعل ماض وروي عنهما أيضاً وعن أبي العالية بفتح الحاء والميم وضم الراء بزنة كَرُم، وهو فعل ماض أيضاً. (وروي عن ابن عباس أيضاً فتح الجميع وهو فعل ماض أيضاً). وعن اليماني بضم الحاء وكسر الراء (مشددة وفتح الميم ماضياً مبنياً للمفعول. وروى عكرمة بفتح الحاء وكسر الراء) وتنوين الميم.
فمن جعله اسماً ففي رفعه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، وفي الخبر حينئذ ثلاثة أوجه:
أحدها: قوله: "لا يَرْجِعُونَ" وفي ذلك حينئذ أربعة تأويلات:
التأويل الأول: أن "لا" زائدة، والمعنى: وممتنع على قرية قدرنا إهلاكها لكفرهم رجوعهم إلى الإيمان إلى أن تقوم الساعة. وممن ذهب إلى زيادتها أبو عمرو مستشهداً عليه بقوله تعالى:
{ { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] يعني أحد القولين.
التأويل الثاني: أنها غير زائدة، وأن المعنى: أنهم غير راجعين عن معصيتهم وكفرهم.
التأويل الثالث: أنَّ الحرام قد يراد به الواجب، ويدل عليه قوله تعالى:
{ { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ } [الأنعام: 151] وترك الشرك واجب ويدل عليه قول الخنساء:

3743- وَإِنَّ حَرَاماً لا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِياً عَلَى شَجْوِةِ إلاَّ بَكَيْتُ عَلَى صَخْر

أي: واجباً. وأيضاً فمن الاستعمال إطلاق أحد الضدين على الآخر، وهو مجاز مشهور قال تعالى: { { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] ومن ثمَّ قال الحسن والسدي: لا يرجعون عن الشرك. وقال قتادة: لا يرجعون إلى الدنيا.
التأويل الرابع: قال مسلم بن بحر: حرام ممتنع، وأنهم لا يرجعون، فيكون عدم رجوعهم واجباً، وإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع، فيكون المعنى: إن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيقه ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد وأنه - تعالى - مجازيه يوم القيامة.
وقول ابن عطية قريب من هذا فإنه قال: وَمُمْتَنِعٌ على الكفرة المهلكين أنهم لا يرجعون (بل هم راجعون) إلى عذاب الله وأليم عقابه، فتكون "لاَ" على بابها والحرام على بابه.
الوجه الثاني: أن الخبر محذوف، تقديره: وحرام توبتهم أو رجاء بعثهم، ويكون { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } علة لما تقدم من معنى الجملة. فيكون حينئذ في "لاَ" احتمالان:
الاحتمال الأول: أن تكون زائدة، ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجه بعد تقديره الخبر المتقدم: إذا جعلت (لا) زائدة.
قلت: والمعنى عنده لأنهم يرجعون إلى الآخرة وجزائها.
الاحتمال الثاني: أن تكون غير زائدة بمعنى ممتنع توبتهم، أو رجاء بعثهم لأنهم لا يرجعون إلى الدنيا فيستدركوا فيها ما فاتهم من ذلك.
الوجه الثالث: أن يكون هذا المبتدأ لا خبر له لفظاً ولا تقديراً، وإنما وقع شيئاً يقوم مقام خبره من باب أقائم أخواك، قال أبو البقاء: والجيد أن يكون (أنهم) فاعلاً سد مسد الخبر. وفي هذا نظر، لأنَّ ذلك يشترط فيه أن يعتمد الوصف على نفي أو استفهام وهنا لم يعتمد المبتدأ على شيء من ذلك اللهم إلا أن ينحو نحو الأخفش فإنه لا يشترط ذلك، وهو الظاهر، وحينئذ يكون في (لا) الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمها باختلاف معنيين، أي: امتنع رجوعهم إلى الدنيا أو عن شركهم، إذا قدرتها زائدة، أو امتنع عدم رجوعهم إلى عقاب الله في الآخرة، إذا قدرتها غير زائدة.
الوجه الثاني: من وجهي رفع "حَرَامٌ": أنه حبر مبتدأ محذوف، فقدره بعضهم: الإقالة والتوبة حرام، وقدره أبو البقاء: أي: ذلك الذي ذكر من العمل الصالح حرام وقال الزمخشري: وحرام على قرية أهلكناها ذاك، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح، والسعي المشكور غير المكفور، ثم علل فقيل: إنَّهم لا يرجعون عن الكفر، فكيف لا يمتنع ذلك. وقرأ العامة "أَهْلَكْنَاهَا" بنون العظمة.
وقرأ أبو عبد الرحمن وقتادة "أَهْلَكْتُهَا" بتاء المتكلم. ومن قرأ "حَرِمٌ" بفتح الحاء وكسر الراء وتنوين الميم فهو في قراءة صفة على فَعِل نحو حَذِر، وقال:

3735- وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي ولاَ حَرِمُ

ومن قرأه فعلاً ماضياً فهو في قراءته مسند لـ "أن" وما في حيزها، ولا يخفى الكلام في (لا) بالنسبة إلى الزيادة وعدمها، فإن المعنى واضح مما تقدم.
وقرىء "إِنَّهُمْ" بالكسر على الاستئناف، وحينئذ فلا بُدَّ من تقدير مبتدأ يتم به الكلام تقديره: ذلك العمل الصالح حرام، وتقدم تحرير ذلك.
قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ } الآية. تقدم الكلام على (حَتَّى) الداخلة على (إذا) مشبعاً. وقال الزمخشري هنا: فإن قُلْت: بم تعلقت (حَتَّى) واقعة غاية له وأية الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقة بـ "حَرَام" وهي غاية له، لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة، وهي حتى التي يحكى بعدها الكلام، والكلام المحكي هو الجملة من الشرط والجزاء أعني: إذا وما في حيزها. وأبو البقاء نحا هذا النحو، فقال: و "حَتَّى" متعلقة في المعنى بـ "حَرَام". أي: يستمر الامتناع إلى هذا الوقت، ولا عمل لها في "إذَا". قال الحوفي: هي غاية، والعامل فيها ما دل عليه المعنى من تأسفهم على ما فرطوا فيه من الطاعة حين فاتهم الاستدراك. وقال ابن عطية: "حَتَّى" متعلقة بقوله: "وَتَقَطَّعُوا"، ويحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تتعلق بـ "يَرْجِعُونَ"، ويحتمل أن تكون حرف ابتداء، وهو الأظهر بسبب (إذا) لأنها تقتضي جواباً للمقصود ذكره.
قال أبو حيان: وكون (حَتَّى) متعلقة بـ "تَقَطَّعُوا" فيه بعد من حيث كثرة الفصل لكنه من حيث المعنى جَيِّد، وهو أنهم لا يزالون مختلفين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة، فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك كله. وتلخص في تعلق (حَتَّى) أوجه:
أحدها: أنها متعلقة بـ "حَرَام".
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى، وهو قول الحوفي.
الثالث: أنها متعلقة بـ "تَقَطَّعُوا".
الرابع: أنها متعلقة بـ "يَرْجِعُونَ".
وتلخص في (حتى) وجهان:
أحدهما: أنَّها حرف ابتداء، وهو قول الزمخشري وابن عطية فيما اختاره.
والثاني: إنها حرف جر بمعنى (إلى).
وقرأ "فُتِّحَتْ" بالتشديد ابن عامر، والباقون بالتخفيف. وتقدم ذلك أول الأنعام وفي جواب "إذَا" أوجه:
أحدها: أنه محذوف، فقدره أبو إسحاق: قالوا يا ويلنا، وقدره غيره، فحينئذ يبعثون، وقوله: { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ } عطف على هذا المقدر.
والثاني: أنَّ جوابها الفاء في قوله: "فَإِذَا هِيَ" قاله الحوفي والزمخشري وابن عطية، فقال الزمخشري: و "إذا" هي للمفاجأة، وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله تعالى:
{ { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [الروم: 36]، فَإِذَا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد، ولو قيل: (إذَا هِيَ شَاخِصَةٌ) كان سديداً.
وقال ابن عطية: والذي أقول: إنَّ الجواب في قوله: { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ } وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره، لأنه رجوعهم الذي كانوا يكذبون به وحرم عليهم امتناعه.
وقوله: "يَأْجُوج" هو على حذف مضاف، أي سدّ يأجوج ومأجوج، وتقدم الكلام فيهما وهما قبيلتان من جنس الإنس، يقال: الناس عشرة أجزاء تسعة أجزاء منها يأجوج ومأجوج يخرجون حيت يفتح السد. قيل: السد يفتحه الله ابتداء. وقيل: بل إذا جعل الله الأرض دكاً زالت تلك الصلابة من أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح السد.
قوله: "وَهُمْ" قال أكثر المفسرين: "هُم" كناية عن "يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ".
وقال مجاهد: كناية عن جميع العالم بأسرهم أي: يخرجون من قبورهم، ومن كل موضع، فيحشرون إلى موقف الحساب.
والأول أظهر وإلا لتكلف النظم، ولأنه روي في الخبر أن يأجوج ومأجوج لا بدَّ وأن يسيروا في الأرض، ويقبلوا على الناس من كل موضع مرتفع. وقرأ العامة" يَنْسِلُونَ" بكسر السين. وأبو السمال وابن أبي إسحاق بضمها. والحَدَب: النشز من الأرض. أي: المرتفع، ومنه الحدب في الظهر، وكل كُدْيَة أو أَكْمَةٍ فهي حدبة، وبها سمي القبر لظهوره على وجه الأرض والنَّسَلاَنُ: مقاربة الخطا مع الإسراع كالرملِ يقال: نَسَلَ يَنْسِلُ وَيَنْسُلُ بالفتح في الماضي والكسر والضمّ في المضارع، ونَسَلَ وعَسَلَ واحد قال الشاعر:

3736- عَسَلاَنَ الذئبِ أَمْسَى قَارِباً بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ

والنَّسْلُ من ذلك، وهو الذُّرّيةُ، أطلق المصدر على المفعول، وَنَسَلْتُ ريشَ الطائِر من ذلك. وقدم الجار على متعلقة لتراخي رؤوس الآي.
وقرأ عبد الله وابن عباس: "جَدَث" بالثاء المثلثة والجيم اعتباراً بقوله:
{ { فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس: 51]. وقرىء بالفاء، وهي بدل منها قال الزمخشري: الثاء للحجاز، والفاء لتميم. وينبغي أن يكونا أصلين، لأنَّ كلاً منهما لغة مستقلة، ولكن كثر إبدال الثاء من الفاء، قالوا مغثور في مغفور، وقالوا فُمَّّ في ثُمَّ، فأبدلت هذه من هذه تارة، وهذه من هذه أخرى.
"(روى حذيفة بن أسد الغفاري قال: اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر، فقال: مَا تَذْكُرُونَ؟ قالوا: نذكر الساعة قال: إنها لن تقوم حَتى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيات فذكر الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)."
قوله: { وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ }. المراد بالوعد الموعود وهو يوم القيامة.
(وسمي الموعود وعداً تجوّزاً. قال الفراء وجماعة: الواو في قوله: "وَاقْتَرَبَ" مقحمة معناه: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق، كقوله:
{ { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ } [الصافات: 103، 104] أي: ناديناه. ويدل عليه ما روى حذيفة قال: لو أنَّ رجلاً اقتنى فُلُوًّا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة.
وقال قوم: لا يجوز طرح الواو، وجعلوا جواب { حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ } في قوله: "يَا وَيْلَنَا" يكون مجازاً لأنّ التقدير: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة).
قوله: { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ } "إذَا" هنا للمفاجأة، و "هِيَ" فيها أوجه:
أجودها: أن يكون ضمير القصة، و "شَاخِصَةٌ" خبر مقدم، و "أَبْصَارُ" مبتدأ مؤخر، والجملة خبر لـ "هِيَ"، لأنها لا تفسر إلا بجملة مصرح بخبرها، وهذا مذهب البصريين.
الثاني: أن تكون "شَاخِصَةٌ" مبتدأ، و "أَبْصَارُ" فاعل سد مسد الخبر، وهذا يتمشى على رأي الكوفيين، لأن ضمير القصة يفسر عندهم بالمفرد العامل عمل الفعل فإنه في قوة الجملة.
الثالث: قال الزمخشري: "هِيَ" ضمير مبهم يوضحه الأبصار ويفسره كما فسر "الَّذِينَ ظَلَمُوا"وَأَسَرُّوا". ولم يذكر غيره. قال شهاب الدين: وهذا قول الفراء، فإنه قال في ضمير الأبصار: تقدمت لدلالة الكلام ومجيء ما يفسرها، وأنشد شاهداً على ذلك:

3737- فَلاَ وَأَبِيهَا لا تَقُولُ خَلِيلَتِي أَلاَ فَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي كَعْبِ

الرابع: أن تكون "هِيَ" عماداً، وهو قول الفراء أيضاً قال: لأنه يصلح موضعها هو، فتكون كقوله: { { إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ } [النمل: 9] ومثله: { { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ } [الحج: 46] وأنشد:

3738- بِثَوب ودينارٍ وشاة ودرهم فَهَلْ هُوَ مَرْفُوع بِمَا هَاهُنَا رَاس

وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي، وهو أنه يجيز تقدم الفصل مع الخبر المتقدم نحو: هو خير منك زيد. الأصل زيد هو خير منك. وقال أبو حيان: أجاز هو القائم زيد، على أنَّ زيداً هو المبتدأ، والقائم خبره، وهو عماد، وأصل المسألة: زيد هو القائم.
قال شهاب الدين: وفي التمثيل نظر، لأنّ تقديم الخبر هنا ممتنع لاستوائهما في التعريف بخلاف المثال المتقدم. فيكون أصل الآية الكريمة: فإذا أبصار الذين كفروا هي شاخصة، فلما قدم الخبر، "شَاخِصَة"، قدم معها العماد.
وهذا أيضاً إنما يجيء على مذهب من يرى وقوع العماد قبل النكرة غير المقارنة للمعرفة.
الخامس: أن تكون "هِيَ" مبتدأ وخبره مضمر، فيتم الكلام حينئذ على "هِيَ" ويبتدأ بقوله: "شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ"، والتقدير: فإذا هي بارزة، أي: الساعة بارزة أو حاضرة و "شَاخِصَةٌ" خبر مقدم، و "أَبْصَارُ" مبتدأ مؤخر. ذكره الثعلبي.
وهو بعيد جداً لتنافر التركيب، وهو التعقيد عند علماء البيان.
قوله: "يَا وَيْلَنَا" معمول لقول محذوف، أي: يقولون يَا وَيْلَنَا. وفي هذا القول المحذوف وجهان: أحدهما: أنه جواب "حتى إذا" كما تقدم.
والثاني: في محل نصب على الحال من "الَّذِينَ كَفَرُوا" قاله الزمخشري.
قوله: { قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } يعني في الدنيا حيث كذبناه وقلنا: إنه غير كائن، بل كنا ظالمين أنفسنا بتلك الغفلة وتكذيب محمد، وعبادة الأوثان.