التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ
١٠١
فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٠٢
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
١٠٣
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
١٠٤
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
١٠٥
-المؤمنون

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } الآية لمَّا قال: { { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 100] ذكر أحوال ذلك اليوم فقال: { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو، وهو آلة إذا نُفِخ فيها ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات، قال عليه السلام: "إِنَّه قَرْنٌ يُنفخُ فِيه" وقرأ ابن عباس والحسن: بفتح الواو جمع صُورة. والمعنى: فإذا نُفخ في الصور أَرْوَاحها وقرأ أبو رزين: بكسر الصاد وفتح الواو، وهو شاذ. هذا عكس (لُحَى) بضم اللام جمع (لِحْية) بكسرها. وقيل: إنّ النفخ في الصور استعارة، والمراد منه البعث والحشر.
قوله: "فَلا أَنْسَابَ" الأنساب جمع نَسَب، وهو القرابة من جهة الولادة، ويُعبّر به عن التواصل، وهو في الأصل مصدر قال:

3811- لاَ نَسَبَ اليَوْمَ وَلاَ خُلَّةً اتسعَ الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ

قوله: "بَيْنَهُم" يجوز تعلقه بنفس "أَنْسَابَ"، وكذلك "يَوْمَئِذٍ"، أي: فلا قربة بينهم في ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة لـ "أَنْسَابَ"، والتنوين في "يَوْمَئِذٍ" عوض عن جملة تقديره: يومئذ نفخ في الصور.
فصل
من المعلوم أنَّه تعالى إذا أَعادهم فالأنساب ثابتة، لأنّ المعاد هو الولد والوالد، فلا يجوز أن يكونَ المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه:
أحدها: أنّ من حق النسب أنْ يقع به التعاطف والتراحم كما يُقال في الدنيا: أسألك باللَّه والرحم أن تفعل كذا، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنَّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنَّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام عظيمة ينسى ولده ووالده.
وثانيها: أنَّ من حق النسب أنْ يحصل به التفاخر في الدنيا، وأنْ يسأل البعض عن أحوال البعض، وفي الآخرة لا يَتَفَرغونَ لذلك.
وثالثها: أنّ ذلك عبارة عن الخوف الشديد، فكل امرئٍ مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه. قال ابن مسعود: يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي منادٍ ألا إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه، فيفرح المرء يومئذ أن يثبت له الحق على أمه أو أخيه أو أبيه ثم قرأ ابن مسعود { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } وروى عطاء عن ابن عباس: أنّها النفخة الثانية.
{ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ } أي: لا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا مَنْ أنت؟ ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أنّ الأنساب تنقطع.
فإن قيل: أليس قد جاء في الحديث:
"كل سَبَبٍ ونسب ينقطع إلا سَبَبِي ونَسَبِي" قيل معناه: لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلاّ سببه ونسبه، وهو الإيمان والقرآن.
فإن قيل: قد قال ههنا "وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ" وقال:
{ { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [المعارج: 10]. وقال { { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات: 27].
فالجواب: رُوي عن ابن عباس أنّ للقيامة أحوالاً ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عِظَم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون. وقيل: إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شُغلوا بأنفسهم عن التساؤل، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا:
{ { يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [يس: 52]. وقيل: المراد لا يتساءلون بحقوق النسب. وقيل: "لاَ يَتَسَاءَلُونَ" صفة للكفار لشدة خوفهم، وأمّا قوله: { { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات: 27] فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها. وعن الشعبي قالت عائشة: "يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول: { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } فقال عليه السلام ثلاثة مواطن تذهل فيها كُلُّ مرضعةٍ عما أرضعت عند رؤية القيامة وعند الموازين وعلى جسر جهنم" .
قوله: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } لمَّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء. قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أُتِيَ بِمَا لَهُ قدر وخطر فهو الفائز المفلح، ومن أتي بِمَا لاَ وزن له ولا قدر فهو الخاسر. وقال ابن عباس: الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله: { { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } [الكهف: 105] أي: قدراً وقيل: ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة، والسيّئات في أقبح صورة. وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء.
قوله: { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } قال ابن عباس: غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وقيل: امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب.
قوله: { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } يجوز أن يكون "خَالِدُونَ" خبراً ثانياً لـ (أُولَئِكَ)، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم خالدون. وقال الزمخشري: { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } بدل من "خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ"، ولا محل للبدل والمبدل منه، لأنّ الصلة لا محل لها.
قال أبو حيان: جعل "فِي جَهَنَّمَ" بدلاً من (خَسِرُوا)، وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به "فِي جَهَنَّمَ" أي: استقروا في جهنم وهو بدل شيء من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم. قال شهاب الدين: فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل دون "خالدون"، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلاً، بدليل قوله بعد ذلك: أو خبراً بعد خبر، لـ "أُولَئِكَ" أو خبر مبتدأ محذوف. وهذان إنّما يليقان بـ "خَالِدُونَ"، وأما "فِي جهنَّم" فمتعلق به، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب، وأيضاً فيصير "خَالِدُونَ" معلقاً. وجوَّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتاً لاسم الإشارة، وفيه نظر، إذ الظاهر كونه خبراً له.
قوله: "تَلْفَحُ" يجوز استئنافه، ويجوز حَالِيته، ويجوز كونه خبراً لـ "أُولَئِك". واللَّفْحُ إصابة النار الشيء بِوَهجها وإحراقها له، وهو أشدُّ من النفح، وقد تقدّم النفح في الأنبياء. قوله: { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } الكُلُوح تشمير الشفة العليا، واسترخاء السفلى.
قال عليه السلام في قوله: { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال:
"تَشْويه النَّارُ فَتَقْلِصُ شَفَتُه العُلْيَا حَتّى تَبْلغ وَسَطَ رَأْسِه، وتَسْترخِي شَفَتُهُ السُفْلَى حَتّى تَبْلغَ سُرَّتَهُ" . وقال أبو هريرة: يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ضرسه مثل أحد، وشفاههم عند سررهم سود زرق خنق مقبوحون. ومنه كُلُوح الأسد أي: تكشيره عن أنيابه، ودهرٌ كالح (وبرد كالح) أي: شديد وقيل الكُلُوح: تقطيب الوجه وتسوره، وكَلَحَ الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً (وكُلاَحاً).
قوله: { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } يعني القرآن تخوفون بها { فكنتم بها تكذبون } قالت المعتزلة دلّت الآية على أنهم إنّما عُذِّبُوا بسوء أفعالهم، ولو كان فعل العبد بخلق الله لما صحّ ذلك.
والجواب: أن القادر على الطاعة والمعصية إنْ صدرت المعصية عنه لا لِمُرجح ألبتّة كان صدورها عنه اتفاقيّاً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب، وإن كان لمرجح فذلك المرجح ليس من فعله وإلاّ لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب.