التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
٥٠
-المؤمنون

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } والمراد عيسى - عليه السلام - وأمه "آيَةً" دلالة على قدرتنا. ولم يقل آيتين قيل: معناه جعلنا شأنهما آية. وقيل المعنى كل واحدٍ آية كقوله: { { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } [الكهف: 33]. قال المفسرون: معنى كون عيسى وأمه آية أنه خُلِقَ من غير ذكر، وأنطقه في المهد في الصغر، وأجرى على يده إبراء الأَكْمَه والأبرص، وإحياء الموتَى وأمّا مريم فلأنها حملت من غير ذَكَر. وقال الحسن: تكلّمت مريم في صغرها كما تكلّم عيسى وهو قولها: { { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنًّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37]، ولم تلقم ثدياً قط. قال ابن الخطيب: والأقرب أن جعلهما آيةً هو نفس الولادة، لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعاً في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة، ويدل على هذا وجهان:
الأول: قوله: { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } لأن نفس المعجز ظهر منهما، لا أنَّه ظهر على يديهما، لأنَّ الولادة فيه وفيها بخلاف الآيات التي ظهرت على يده.
الثاني: قوله: { آيَةً } ولم يقل آيتين، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتمّ إلا بمجموعهما أولى، وذلك هو الولادة لا المعجزات التي كانت لعيسى.
قوله: { وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ } "الرُّبْوَة" و"الرُّبَاوة" في رَائهما الحركات الثلاثة، وهي الأرض المرتفعة.
قال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وأبي العالية وكعب قال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً.
وقال أبو هريرة: إنها الرَّمْلَة. وقال السدي: أرض فلسطين. وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل والضحاك. وقال الكلبي وابن زيد: هي مصر. والقَرار: المستقر من أرض مستوية منبسطة. وقال قتادة: ذات ثمارٍ وماء، أي: لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها. قوله: "وَمَعِينٍ" صفة لموصوف محذوف، أي: وماء معين. وفيه قولان:
أحدهما: أن ميمه زائدة، وأصله مَعْيُون. أي: مبصر بالعين فَأُعلّ إعلال مَبِيع وبابه وهو مثل قولهم: كَبْدتُه، أي ضربت كَبده، ورأسته أي: أصبت رأسه، وعنْتُه أي: أدركته بعيني ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن.
والثاني: أن الميم أصلية، ووزنه (فَعِيل) مشتق من المَعْن.
واختلف في المعين، فقيل: هو الشيء القليل، ومنه: المَاعُون. وقيل: هو من مَعنَ الشيء معانة أي: كثر، قال جرير:

3799- إنَّ الَّذِينَ غَدَوْا بِلُبِّكَ غَادَرُوا وَشَلاً بِعَيْنِكَ لا يزالُ مَعِينَا

وقال الراغب: هو من مَعَن الماء جرى، وسُمي مَجَارِي الماء مُعْنان، وأمْعَن الفرس تباعد في عَدْوه، وأمْعَن بِحَقِّي: ذهب به، وفلانٌ معن في حاجته يعني: سريعاً فكلّه راجع إلى معنى الجري والسرعة.
وفي المعين قولان:
أحدهما: أنّه مفعول، لأنه لظهوره مدرك بالعين من عانه: إذا أدركه بعينه.
وقال الفراء والزجاج: إن شِئْتَ جعلته (فَعِيلاً) من المَاعون، ويكون أصله من المَعْن والمَاعون فاعُول منه. قال أبو علي: والمعين: السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى، والماعون ما سهل على معطيه. قالوا: وسبب الإيواء أنها فرّت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم.