التفاسير

< >
عرض

وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٦٢
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
٦٣
حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
٦٤
لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ
٦٥
-المؤمنون

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } الآية، لمّا ذكر كيفيّة أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العبادة:
الأوّل: قوله: { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } قال المفضّل: الوسع الطاقة.
وقال مقاتل، والضحّاك، والكلبي، والمعتزلة: هو دون الطاقة، لأن الوسع إنما سُمي وُسعاً، لأنه يتسع عليه فعله، ولا يصعب ولا يضيق، فبيّن أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا. قال مقاتل: من لم يستطع القيام فليصلّ قاعداً، ومن لم يستطع الجلوس فَلْيومئ إيماء، ومن لم يستطع الصوم فليفطر.
قوله: { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ } "يَنْطِقُ" صفة لـ "كِتَابٌ" و"بِالحَقِّ" يجوز أن يتعلق بـ "يَنْطِق"، وأن يتعلق بمحذوف حالاً من فاعله. أي: ينطق ملتبساً بالحق، ونطيره
{ { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ } [الجاثية: 29]. فشبّه الكتاب بمن يصدر عنه البيان، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان مُحِقًّا. فإن قيل: هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب، إما ان يكونوا محيلين الكذب على الله، أو مجوزين ذلك عليه، فإن أحالوه عليه، فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، وإن جوزوه عليه لم يحصل لهم بذلك الكتاب يقين، لتجويزهم أنه - سبحانه - كتب فيه خلاف ما حصل، وعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب. فالجواب: يفعل الله ما يشاء، وعلى أنه لا يَبْعُد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة.
قوله: { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا ينقص من حسناتهم، ولا يُزاد على سيئاتهم ونظيره:
{ { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف: 49].
قالت المعتزلة: الظلم إمّا أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب، أو بأن يعذب على ما لم يعمل أو بأن يكلفهم (ما لاَ يَطِيقُونَ) فتكون الآية دالة على كون العبد مُوجداً لفعله، وإلا لكان تعذيبه عليه ظلماً، ويدلُّ على أنه - سبحانه - لا يكلف ما لا يطاق.
وأجيب بأنه لمّا كلف أبا لهب أن يؤمن (والإيمان يقتضي تصديق الله في كل ما أخبر به، ومما أخبر أنّ أبا لهب لا يؤمن) فقد كلّفه (بأن يؤمن) بأن لا يؤمن فيلزمكم (كل ما ذكرتموه).
قوله: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي: في غفلة وجهالةٍ، يعني الكفار في غفلة. "مِنْ هَذَا" أي: القرآن، أي من هذا الذي بيّناه في القرآن، أو من الكتاب الذي ينطق بالحق أو من هذا الذي هو وصف المشفقين. "وَلَهُمْ" أي: ولهؤلاء الكفار { أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ } أي: أعمال خبيثة من المعاصي "دُون ذَلِك" أي: سوى جهلهم وكفرهم.
وقيل: "دُون ذَلِك" يعني: من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله - عز وجل - قال بعضهم: أراد أعمالهم في الحال. وقيل: بل أراد المستقبل لقوله: { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ }.
وإنما قال: { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ }، لأنها مثبتة في علم الله - تعالى - وفي اللوح المحفوظ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة. وقال أبو مسلم: هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه قال بعد وصفهم: { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون "وَلَدَيْنَا كِتَابٌ" يحفظ أعمالهم "يَنْطِقُ بالحَقِّ"فَلاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا" هو أيضاً وصفٌ لهم بالحيرة كأنه قال: وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أن أعمالهم مقبولة أو مردودة { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ } أي: لهم أيضاً من النوافل ووجوه البرِّ سِوَى ما هم عليه إمَّا أعمالاً قد عملوها في الماضي، أو سيعملوها في المستقبل، ثم إنه تعالى رجع بقوله: { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ } إلى وصف الكفار وهذا قول قتادة.
قال ابن الخطيب: وقول أبي مسلم أولى، لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به كان أولى من ردّه إلى ما بعد خصوصاً، وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أنّ أعمالهم محفوظة، كما يحذر بذلك من الشر، وقد يُوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة، ويراد أنّه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو ردِّه، وفي أنه هل أدَّى عمله كما يجب أو قصّر؟
فإن قيل: فما المراد بقوله: "مِنْ هَذَا" وهو إشارة إلى ماذا؟
قلنا: إشارة إلى إشفاقهم ووجهلم بيَّن أنهما مستوليان على قلوبهم.
قوله: { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } كقوله:
{ { هُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون: 61].
قوله: { حَتَّىٰ إِذَآ } "حَتَّى" هذه إمّا حرف ابتداء والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها، وإذا الثانية فجائية، وهي جواب الشرط، وإمّا حرف جر عند بعضهم، وتقدّم تحقيقه. وقال الحوفي: "حَتَّى" غاية، وهي عاطفة، و"إذَا" ظرف مضاف لما بعده فيه معنى الشرط، و"إذَا" الثانية في موضع جواب الأولى، ومعنى الكلام عامل في "إذَا"، والمعنى: جأروا، والعامل في الثانية "أَخَذْنَا". وهو كلام لا يظهر.
وقال ابن عطية: و"حَتَّى" حرف ابتداء لا غير، و"إذا" الثانية - (التي هي جواب) - تمنعان من أن تكون "حَتَّى" غاية لـ "عَامِلُونَ". قال شهاب الدين: يعني أنّ الجملة الشرطية وجوابها لا يظهر ان تكون غاية لـ "عَامِلُونَ".
وظاهر كلام مكّي أنها غاية لـ "عَامِلُونَ"، فإنه قال: أي: لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البرّ { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم إذا هم يضجون والجُؤار: الصراخ مطلقاً، وأنشد الجوهري:

3803- يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِيـ ـك طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤَارَا

وتقدّم مستوفى في النحل.
فصل
قال الزمخشري: "حَتَّى" هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية.
واعلم أن الضمير في "مُتْرفِيهِم" راجع إلى من تقدّم ذكره من الكفار، لأنّ العذاب لا يليق إلا بهم. والمراد بالمُترفين: رؤساؤهم. قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر.
وقال الضحاك: يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"اللهُّم اشْدُدْ وَطْأَتَك على مُضَر واجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِني يُوسُف" فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجِيفَ. وقيل: أراد عذاب الآخرة. ثم بيّن تعالى أنّهم إذا نزل بهم هذا "يَجْأَرُونَ" أي: ترتفع أصواتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة مَا نَالَهُم.
ويقال لهم على وجه التبكيت: { لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ }.
لا تُمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم.