التفاسير

< >
عرض

قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
٣٠
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٣١
-النور

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الآية. الغض: إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية. قال:

3826- فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبا

وفي "مِنْ" أربعة أوجه:
أحدها: أنها للتبعيض، لأنه يُعْفَى عن الناظر أول نظرة تقع من غير قصد.
والثاني: لبيان الجنس، قاله أبو البقاء. وفيه نظر من حيث إنَّه لم يَتَقَدَّم مُبهمٌ يكونُ مُفَسَّراً بـ "مِنْ".
الثالث: أنها لابتداء الغاية، قاله ابن عطية.
الرابع: قال الأخفش: إنها مزيدة.
فصل
قال الأكثرون: المراد غض البص عما يحرم والاقتصار به على ما يحل.
فإن قيل: كيف دخلت "مِنْ" في غض البصر دون حفظ الفرج؟
فالجواب: أن ذلك دليل على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن، وكذا الجواري المستعرضات، وأما أمر الفروج فمضيق.
وقيل: معنى { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي: ينقصوا من نظرهم بالبصر إذا لم يكن من عمله فهو مغضوض.
وعلى هذا "مِنْ" ليست زائدة، ولا هي للتبعيض، بل هي صلة للغض، يقال: غضضت من فلان: إذا نقصت منه.
فصل
العورات تنقسم أربعة أقسام:
عورة الرجل مع الرجل.
وعورة المرأة مع المرأة.
وعورة المرأة مع الرجل.
وعورة الرجل مع المرأة.
أما الرجل مع الرجل، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا العورة، وهي ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليسا بعورة.
وعند أبي حنيفة: الركبة عورة.
وقال مالك: "الفخذ ليس بعورة".
وهو مردود بقوله عليه السلام:
"غَطِّ فَخَذَكَ فإنَّهَا مِنَ العَوْرَةِ" .
وقوله لعلي: "لا تُبْرِزْ فَخذَكَ، وَلاَ تَنْظُر إلى فَخِذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ" .
فإن كان أمر ولم يحل النظر إلى وجهه، ولا إلى شيء من سائر بدنه بشهوة، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لقوله عليه السلام: "لا يُفضي الرجل إلى الرجل في فراش واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد" . وتكره معانقة الرجل للرجل وتقبيله إلا لولده شفقة لما روي عن أنس قال: "قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أيلزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: أفيأخذ يده فيصافحه؟ قال: نعم" .
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المكاعمة والمكامعة، وهي: معانقة الرجل للرجل وتقبيله.
وأما عورة المرأة مع المرأة، فهي كالرجل مع الرجل فيما ذكرنا سواء.
والذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة؟ فقيل: هي كالمسلمة مع المسلمين.
والصحيح أنه لا يجوز لها (النظر) لأنها أجنبية في الدين لقوله تعالى: "أَوْ نِسَائِهِنَّ" وليست الذمية من نسائنا.
وأما عورة المرأة مع الرجل، فإما أن تكون (أجنبية، أو ذات محرم، أو مستمتعة. فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة. فإن كانت) حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء، والمراد: الكف إلى الكوع. واعلم أن النظر إلى وجهها ينقسم ثلاثة أقسام:
إما ألاّ يكون فيه غرض ولا فتنة، وإما أن يكون فيه غرض ولا فتنة، وإما أن يكون لشهوة. فإن كان لغير غرض فلا يجوز النظر إلى وجهها، فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى: { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ }. وقيل: يجوز مرة واحدة إذا لم تكن فتنة، وبه قال أبو حنيفة. ولا يجوز تكرار النظر لقوله عليه السلام:
"لا تُتْبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة" .
وقال جابر: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري. فإن كان فيه غرض ولا فتنة، وهو أمور:
أحدها: أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيْها لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله أنْ يتزوج امرأة من الأنصار:
"انظُرْ إليْهَا، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً" وقال عليه السلام: "إذا خطب أحدُكُم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان ينظر إليها للخطبة" .
وقال المغيرة بن شعبة: "خطبت امرأة، فقال عليه السلام: نظرت إليها؟ فقلت: لا. قال: فانظر فإنه أحْرى أن يؤدم (بينكما)" .
وذلك يدل على جواز النظر بشهوة إلى الوجه والكفين إذا أراد أن يتزوجها ولقوله تعالى: { { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } [الأحزاب: 52] ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن.
وثانيها: أنه إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة.
وثالثها: عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة.
ورابعها: ينظر إليها عند تحمل الشهادة، ولا ينظر إلى غير الوجه. فإن كان النظر لشهوة فهو محرم لقوله عليه السلام:
"العينان تزنيان" .
وأما النظر إلى بدن الأجنبية فلا يجوز إلا في صور:
أحدها: يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمعالجة والختان، ينظر إلى فرج المختون للضرورة.
وثانيها: أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين ليشهد على الزنا، وكذلك ينظر إلى فرجها ليشهد على الولادة، وإلى ثدي المرضعة ليشهد على الرضاع.
وقال بعض العلماء لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع، لأن الزنا مندوب إلى ستره، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء، فلا حاجة إلى نظر الرجال.
وثالثها: لو وقعت في غرق أو حرق له أن ينظر إلى بدنها لتخليصها. فإن كانت الأجنبية أمة فقيل: عورتها ما بين السرة والركبة.
وقيل: عورتها ما لا يبين في المهنة، فخرج منه عنقها وساعدها ونحرها ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال إلا لحاجة، لأن اللمس أقوى من النظر، لأن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره.
فصل
فإن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل. وقيل: عورتها ما لا يبدو عند المهنة، وهو قول أبي حنيفة. وستأتي بقية التفاصيل - إن شاء الله تعالى - في تفسير الآية.
فصل
فإن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج، إلا أنه يكره النظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه، لأنه يروى أنه يورث الطمس.
وقيل: لا يجوز (النظر) إلى فرجها، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمة قِنّ أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة.
فإن كانت مجوسية، أو مرتدة، أو وثنية، أو مشتركة بينه وبين غيره، أو مزوجة، أو مكاتبة فهي كالأجنبية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا زوَّج أحدُكُم جاريتَه عبدَه أو أجيره فعورته معها ما بين السرة والركبة" .
فصل
فأما عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة، ولا تكرير النظر إلى وجهه لما
" روت أم سلمة أنَّها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة، إذ أقبل ابن أم مكتوم، فقال: احتجبَا عنه فقالت: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرُنا؟ فقال عليه السلام: أَفعمياوان أنْتُمَا؟ ألستما تبصرانه" ؟. وإن كان محرماً لها فعورته ما بين السرة والركبة.
وإن كان زوجها أو سيدها الذي له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه، غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها.
فصل
ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خالٍ وله ما يستر عورته، لأنه عليه السلام سئل عنه فقال:
"الله أحق أن يُسْتَحيَى منه" وقال عليه السلام: "إيَّاكُمْ والتَّعَرِّي، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله" .
قوله: "وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ" أي: عما لا يحل.
وقال أبو العالية: كلُّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه.
وهذا ضعيف، لأنه تخصيص من غير دليل، والذي يقتضيه الظاهر حفظ الفروج عن سائر ما حرم عليهما من الزنا واللمس والنظر.
قوله: { ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ }.
أي: غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم، أي: خير لهم وأطهر { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } عليمٌ بما يفعلون.
قوله: { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } الكلام فيه كما تقدم وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا، والبلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراز منه.
قوله: { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أي: لا يظهرن زينتهن لغير محرم، والمراد بالزينة: الخفية، وهما زينتان: خفية وظاهرة. فالخفية: مثل الخلخال والخضاب في الرِّجْل، والسوار في المعصم، والقرط والقلائد، فلا يجوز لها إظهارها، ولا للأجنبي النظر إليها. والمراد بالزينة: موضع الزينة.
وقيل: المراد بالزينة: محاسن الخَلْق التي خلقها الله، وما تزين به الإنسان من فضل لباس، لأن كثيراً من النساء ينفردن بخَلْقِهِنَّ من سائر ما يُعَدُّ زينة، فإذا حملناه على الخِلْقَة وفينا العموم حقه، ولا يمنع دخول ما عدا الخِلْقة فيه، ولأنَّ قوله: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } يدل على أن المراد من الزينة ما يعم الخِلْقة وغيرها، فكأنها تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن، موجباً سترها بالخمار.
قوله: { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا }. أما الذين حملوا الزينة على الخلقة فقال القفال: معنى الآية: إلا ما يظهره الإنسان في العادة، وذلك من النساء: الوجه والكفان، ومن الرجال: الوجه واليدان والرجلان، فرخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه، وأدت الضرورة إلى إظهاره، وأمرهم بستر ما لا ضرورة في كشفه. ولما كان ظهور الوجه والكفين ضرورة لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة.
وأما القدم فليس ظهوره ضرورياً فلا جرم اختلفوا فيه هل هو من العورة أم لا؟ والصحيح أنه عورة. وفي صوتها وجهان:
أصحهما ليس بعورة، لأن نساء النبي - عليه السلام - كن يروين الأخبار للرجال.
وأما الذين حملوا الزينة على ما عد الخلقة، قالوا: إنه تعالى إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف في أنه يحل النظر إليها حال (انفصالها عن أعضاء المرأة، فلما حرم الله النظر إليها حال) اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة. وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوَشمَة والغُمْرَة، وزينة بدنها من الخضاب والخواتيم والثياب، لأن سترها فيه حرج، لأن المرأة لا بد لها من مزاولة الأشياء بيديها، والحاجة إلى كشف وجهها للشهادة والمحاكمة والنكاح.
قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي: "الزينة الظاهرة التي استثنى الله الوجهُ والكفان".
وقال ابن مسعود: هي الثياب، لقوله تعالى:
{ { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 31].
وقال الحسن: الوجه والثياب.
وقال ابن عباس: الكحْل والخاتم والخضاب في الكف. فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها إذا لم يخف فتنة وشهوة، فإن خاف شيئاً منها غض البصر.
فصل
واتفقوا على تخصيص قوله: { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } بالحرائر دون الإماء والمعنى فيه ظاهر، لأن الأمة مالٌ، فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء.
قوله: "وَلْيَضْرِبْنَ". ضمن "يضْرِبْنَ" معنى "يُلْقِينَ" فلذلك عداه بـ "على". وقرأ أبو عمرو في رواية بكسر لام الأمر.
وقرأ طلحة: "بِخُمْرهنَّ" بسكون الميم. وتسكين "فَعْل" في الجمع أولى من تسكين المفرد. وكسر الجيم من "جِيُوبِهِنَّ" ابن كثير والأخوان وابن ذكوان.
والخُمُر: جمع خمار، وفي القلة يجمع على أخْمِرة. قال امرؤ القيس:

3827- وَتَرَى الشَّجْراءَ فِي رِيِّقِهِ كَرُؤُوسٍ قُطِعَتْ فِيهَا الخُمُرْ

والجيب: ما في طوق القميص يبدو منه بعض الجسد.
فصل
قال المفسرون: إنَّ نساء الجاهلية كنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرهن من خلفهن، وإن جيوبهن كانت من قدام، وكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتغطي بذلك أعناقهن ونحورهن.
قالت عائشة: رحم الله نساءَ المهاجرات الأُوَل، لما أنزل الله: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } شققن مروطهن فاختمرن بها.
قوله: { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } يعني الزينة الخفية التي لم يبح لهنَّ كشفها في الصلاة ولا للأجانب، وهو ما عد الوجه والكفين "إِلاَّ لِبُعولَتهنَّ" قال ابن عباس ومقاتل: يعني لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة، ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة إلا الزوج فإنه يجوز له أن ينظر على ما تقدم، وهؤلاء محارم.
فإن قيل: أيحل لذي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل في المؤمنة؟
فالجواب: إذا ملك المرأة من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة فإن قيل: فما القول في العم والخال؟
فالجواب: أن الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر، وهو قول الحسن البصري قال: لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع، وهو كالنسب، وقال في سورة الأحزاب
{ { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ } الآية [الأحزاب: 55] ولم يذكر فيها البعولة، وقد ذكره هنا.
وقال الشعبي: إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفها العم عند ابنه، والخال كذلك.
والمعنى: أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وابناهما، وإذا رآها الأب وصفها لابنه وليس بمحرم، وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب.
فصل
والسبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن واحتياج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار في النزول والركوب.
قوله: "أَوْ نِسَائِهِنَّ".
قال أكثر المفسرين: المراد اللاَّئِي على دينهن.
قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة، ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها.
وكتب عُمَر إلى أبي عبيدة أن تمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقيل: المراد بـ "نِسَائِهِنَّ" جميع النساء.
وهذا هو الأولى، وقول السلف محمول على الاستحباب.
قوله: { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ }. وهذا يشمل العبيد والإماء، واختلفوا في ذلك: فقال قوم: عبد المرأة مَحْرَم لها يجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم، وهو ظاهر القرآن، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة.
"وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قَنعْت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغُلامك" . وعن مجاهد: "كنَّ أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم". وكانت عائشة تمتشط والعبد ينظر إليها.
وقال ابن مسعود والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته. وهو قول أبي حنيفة.
وقال ابن جريج: المراد من الآية: الإماء دون العبيد، وأن قوله: { أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أنه لا يحل لامرأةٍ مسلمة أن تتجرد بين امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المشركة أمةً لها.
قوله: { أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ }.
قرأ ابن عامر وأبو بكر: "غَيْرَ" نصباً، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه استثناء.
وقيل: على القطع، لأن "التَّابِعِينَ" معرفة و"غَيْر" نكرة.
والثاني: أنه حال. والباقون: "غيرِ" بالجر نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً.
والإِرْبَةُ: الحاجةُ. وتقدم اشتقاقها في "طه".
(قوله: "مِنَ الرِّجَالِ" حال من "أُولِي").
فصل
المراد بـ { ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ }.
قال مجاهد وعكرمة والشعبي: هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم، لا همة لهم إلا ذلك، ولا حاجة لهم في النساء.
وعن ابن عباس: أنه الأحمق العنين.
وقال الحسن: "هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن".
وقال سعيد بن جبير: المعتوه. وقال عكرمة: المجبوب. وقيل: هو المخنّث. وقال مقاتل: هو الشيخ الهرم والعنِّين والخَصِيّ والمجبوب ونحوه.
واعلم أن الخَصِيّ والمجبوب ومن يشاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع، ويكون له إربة فيما عداه من التمتع، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد، فيجب أن يحمل المراد على من لا إربة له في سائر وجوه التمتع لما روت عائشة قالت:
"كانَ رجلٌ مخنَّثٌ يدخل على أزواج - النبي صلى الله عليه وسلم - فكانوا يَعدُّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة فقال: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمانٍ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَلاَ أرى هذا يعلم ما هَهُنا، لا يَدْخُلَنَّ هَذا فحجبوه" .
وفي رواية عن زينب بنت أم سلمة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلَ عليها وعندها مخنَّث، فأقبل على أخي أم سلمة، فقال: يا عبد الله، إن فتح الله غداً لكم الطائف دللتك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال عليه السلام: لا يدخُلَنَّ عليكم هذا" فأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخول المخنث عليهن، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهنَّ علم أنه من أولي الإربة، فحجبه.
وفي الخَصِيّ والمجبوب ثلاثة أوجه:
أحدها: استباحة الزينة الباطنة.
والثاني: تحريمها.
(والثالث: تحريمها) على المَخْصِيّ دون المجبوب.
قوله: { أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ }.
تقدم في الحج أن الطفل يطلق على المثنى والمجموع، فلذلك وصف بالجمع.
وقيل: لما قصد به الجنس روعي فيه الجمع كقولهم: "أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَار الحمْر والدِّرْهَمُ البِيضُ". و"عَورَاتِ" جمع عَوْرَةٍ، وهو ما يريد الإنسان ستره من بدنه، وغلب في السَّوأَتَيْن. والعامة على "عوْرات" بسكون الواو، وهي لغة عامة العرب، سكنوها تخفيفاً لحرف العلة. وقرأ ابن عامر في رواية "عَوَرَاتِ" بفتح الواو.
ونقل ابن خالويه أنها قراءة ابن أبي إسحاق والأعمش، وهي لغة هذيل بن مدركة. قال الفراء: وأنشد في بعضهم:

3828- أَخُو بَيَضَاتٍ رائِحٌ مُتَأوِّبٌ رَفِيقٌ بمَسْحِ المَنْكبَيْنِ سَبوح

وجعلها ابنُ مجاهد لحناً وخطأ، يعني: من طريق الرواة، وإلا فهي لغة ثانية.
(فصل)
الظهور على الشيء يكون بمعنى العلم به، كقوله تعالى:
{ { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } [الكهف: 20] أي: يشعروا بكم. ويكون بمعنى الغلبة عليه، كقوله: "فَأَصْبَحُوا ظَاهِرينَ".
فلهذا قال مجاهد وابن قتيبة: معناه: لم يطلعوا على عورات النساء، ولم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر.
وقال الفراء والزجاج: لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء.
وقيل: لم يبلغوا حدّ الشهوة.
فصل
فأما المراهق فيلزم المرأة أن تستُر منه ما بين سرتها وركبتها، وفي لزوم ستر ما عداه وجهان:
الأول: لا يلزم، لأن القلم غير جار عليه.
والثاني: يلزم كالرجل، لأنه مشتهى، والمرأة قد تشتهيه، واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم وأما الشيخ فإن بقيت له شهوة فهو كالشاب، وإن لم تبق له شهوة ففيه وجهان:
أحدهما: أن الزينة الباطنة معه مباحة، والعورة معه ما بين السرة والركبة.
والثاني: أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة.
وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى، (والرضاع كالنسب).
قوله: { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ }.
قال ابن عباس وقتادة: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخالها، فنُهِينَ عن ذلك؛ لأن الذي تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة إلى مشاهدتهن، وعلل تعالى ذلك بقوله: { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } وفي الآية فوائد:
الأولى: لما نهي عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة، فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى.
الثانية: أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب، إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة (من صوت خلخالها، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت، والمرأة منهية عنه.
الثالثة: تدل على تحريم النظر إلى وجهها بشهوة، لأن ذلك أقرب إلى الفتنة).
قوله تعالى: { وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا ٱلْمُؤْمِنُونَ }. قال ابن عباس: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. وقيل: تُوبُوا من التقصير الواقع منكم في أمره ونهيه. وقيل: راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة.
قوله: "أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ". العامة على فتح الهاء وإثبات ألف بعد الهاء، وهي "ها" التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف "يأَيُّهُ السَّاحِر" [الزخرف: 49] وفي الرحمن "أَيُّهُ الثقلان" [الرحمن: 31] بضم الهاء وصلاً، فإذا وقف سكن.
ووجهها: أنه لما حذفت الألف لالتقاء الساكنين استحقت الفتحة على حرف خفي، فضمت الهاء إتباعاً. وقد رُسِمَتْ هذه المواضع الثلاثة دون ألف، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف والباقون بدونها اتباعاً للرسمِ، ولموافقة الخط للفظ. وثبتت في غير هذه المواضع حَمْلاً لها على الأصل نحو:
{ { يَأَيُّهَا النَّاسُ } [الحج: 1]، { { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } [النساء: 71] وبالجملة فالرسم سنة متبعة.