التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥١
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون
٥٢
وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٥٣
قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٥٤
-النور

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }. العامة على نصب "قَوْلَ" خبراً لـ "كَانَ"، والاسم "أنْ" المصدرية وما بعدها. وقرأ أمير المؤمنين والحسن وابن أبي إسحاق برفعه على أنه الاسم، و"أَنْ" وما في حَيِّزها الخبر، وهي عندهم مرجُوحَةٌ، لأنه متى اجتمع مَعْرِفَتَان فالأولى جعل الأعرف الاسم، وإن كان سيبويه خيَّر في ذلك بين كل معرفتين، ولم يفرِّق هذه التفرقة، وتقدم تحقيق هذا في "آل عمران".
فصل
قوله: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي: إلى كتاب الله { وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } وهذا ليس على طريق الخبر، ولكنه تعليم أدب الشرع، بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا، { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي: سمعنا الدعاء وأطعنا بالإجابة، { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } قال ابن عباس: فيما ساءه وسره "وَيخْشَى اللَّهَ" فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي "وَيَتَّقِه" فيما بقي من عمره { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون } الناجون.
قوله: "وَيَتَّقِهِ". القراء فيه بالنسبة إلى القاف على مرتبتين:
الأولى: تسكينُ القاف، ولم يقرأ بها إلاّ حفص. والباقون بكسرها.
وأما بالنسبة إلى هاء الكناية فإنهم فيها على خمس مراتب:
الأولى: تحريكُهَا مَفْصُولةً قولاً واحداً، وبها قرأ ورشٌ وابن ذَكْوَانَ وخَلَفٌ وابن كثير والكسائيّ.
الثانية: تسكينها قولاً واحداً، وبها قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم.
الثالثة: إسكان الهاء أو وصلها بياء، وبها قرأ خلاَّد.
الرابعة: تحريكها من غير صلة، وبها قرأ قالون وحفص.
الخامسة: تحريكها موصولة أو مقصورة، وبها قرأ هشام.
فأمَّا إسكان الهاء وقصرها وإشباعها فقد مرَّ تحقيقه مستوفًى. وأما تسكين القاف فإنهم حملوا المنفصل على المتَّصل، وذلك أنهم يُسَكِّنُون عين "فَعل" فيقولون: كَبْد، وكتف، وصبر في كَبِد وكَتِف وصبِر، لأنها كلمة واحدة، ثم أجري ما أشبه ذلك من المنفصل مُجْرَى المتصل، فإن "يَتَّقِه" صار منه "تَقِه" بمنزلة "كَتِف" فسكن كما يسكن، ومنه:

3849- قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا

بسكون الراء كما سكن الآخر:

3850- فَبَاتَ مُنْتَصباً وَمَا تَكَرْدَسَا

وقول الآخر:

3851- عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ

يريد: "مُنْتَصِباً"، و"لَمْ يَلِدْهُ".
وتقدم في أول البقرة تحرير هذا الضابط في قوله:
{ فهي كالحجارة } [البقرة: 74] و"هي" و"هو" ونحوها:
وقال مكيٌّ: كان يجب على من سَكَّنَ القاف أن يضُمَّ الهاء، لأنَّ هاء الكناية إذا سُكِّن ما قبلها ولم يكن الساكن ياءً ضُمَّتْ نحو "مِنْهُ" و"عَنْهُ"، ولكن لما كان سكون القاف عارضاً لم يعتدَّ به، وأبقى الهاء على كسرتها التي كانت عليها مع كسر القاف، ولم يصلها بياء، لأنَّ الياء المحذوفة قبل الهاء مُقَدَّرَةٌ مَنْويَّةٌ، (فبقي الحذف الذي في الياء قبل الهاء على أصله).
وقال الفارسيُّ: الكسرة في الهاء لالتقاء الساكنين، وليست الكسرة التي قبل الصلة، وذلك أنَّ هاء الكناية ساكنةٌ في قراءته، ولما أَجْرَى "تَقِهِ" مجرى كَتِفٍ، وسكَّن القاف التقى ساكنان، ولمَّا التقيا اضطر إلى تحريك أحدهما، فإمَّا أن يحرِّك الأول أو الثاني، (و) لا سبيل إلى تحريك الأول، لأنه يعود إلى ما فرَّ منه، وهو ثقل "فَعِل" فحرَّك ثانيهما (على غير) أصل التقاء الساكنين، فلذلك كسر الهاء، ويؤيده قوله:

3852-........................ .................. لَمْ يَلْدَه أبَوَانِ

وذلك أن أصله: لم "يَلِدْه" بكسر اللام وسكون الدال للجزم، ثم لما سكن اللام التقى ساكنان، فلو حرك الأول لعاد إلى ما فرَّ منه، فحرك ثانيهما وهو الدال، وحركها بالفتح وإن كان على خلاف أصل التقاء الساكنين مراعاة لفتحة الياء. وقد ردَّ أبو القاسم بن فيره قول الفارسي وقال: لا يصحُّ قوله: إنه كسر الهاء لالتقاء الساكنين، لأن حفصاً لم يسكِّن الهاء في قراءته قطُّ وقد رد أبو عبد الله شارح قصيدته هذا الردَّ، وقال: وعجبت من نفْيِهِ الإسكان عَنْهُ مع ثُبُوتِهِ عَنْهُ في { { أَرْجِهْ } [الأعراف: 111] و { فَأَلْقِهْ } [النمل: 28]، وإذا قَرَأَهُ في "أَرْجِهْ" و"فَأَلْقِهْ" احتمل أن يكون "يَتَّقِهْ" عنده قبل سكون القاف كذلك، وربما يرجَّحَ ذلك بما ثبت عن عاصم من قراءته إيَّاه بسكون الهاء مع كسر القاف. قال شهاب الدين: لم يَعْنِ الشاطبيُّ بأنَّه لم يسكن الهاء قطّ، الهاء من حيث هي هي، وإنما (عَنَى هَاء) "يَتَّقِهْ" خاصة، وكان الشاطبيّ أيضاً يعترض التوجيه الذي تقدم عن مكيّ، ويقول: تعليله حذف الصلة بأن الياء المحذوفة قبل الهاء مقدَّرةٌ منويَّةٌ، فبقي في حذف الصلة بعد الهاء على أصله غير مستقيم من قبل أنَّه قرأ "يُؤَدِّهِي" [آل عمران: 75] وشبَّهه بالصلة، ولو كان يعتبر ما قاله من تقدير الياء قبل الهاء لم يصلها.
قال أبو عبد الله: هو وإن قرأ "يُؤَدِّ هِي" وشبَّهَهُ بالصلة فإنه قرأ:
{ { يَرْضَهُ } [الزمر: 7] بغير صلةٍ، فَألحق مكيّ "يَتَّقِه" بـ "يَرْضَهْ"، وجعله مما خرج فيه عن نظائره لاتّباع الأثر، والجمع بين اللغتين، ويرجح ذلك عنده لأنّ اللفظ عليه، ولما كانت القاف في حكم المكسورة بدليل كسر الهاء بعدها صار كأنه "يَتَّقِهِ" بكسر القاف والهاء من غير صلةٍ، كقراءة قالون وهشام في أحد وجهيه، فعلَّله بما يُعَلِّل به قراءتهما، والشاطبيُّ يرجح عنده حمله على الأكثر مما قرأ به، لا على ما قلَّ وندر، فاقتضى تعليله بما ذكر.
قوله تعالى: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ }. في "جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ" وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على المصدر بدلاً من اللفظ بفعله، إذ أصل: أقسم بالله جهد اليمين: أقسم بجهد اليمين جهداً، فحذف الفعل وقدَّم المصدر موضوعاً موضعه، مضافاً إلى المفعول كـ
{ { ضَرْبَ الرِّقَابِ } [محمد: 11]، قاله الزمخشري.
والثاني: أنه حال، تقديره: مُجتهدين في أيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك وطاقتك. وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعد ما تقدَّم عنه: وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قيل: جاهدين أيمانهم وتقدم الكلام على
{ { جَهْد أيْمَانِهِم } في المائدة [53].
فصل
قال مقاتل: من حلف بالله فقد أجهد في اليمين، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أينما كنت نكن معك، لئن خرجت خرجنا، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا" . فقال الله تعالى: "قُلْ" لهم "لاَ تُقْسِمُوا" لا تحلفوا، وهاهنا تم الكلام.
ولو كان قسمهم لما يجب لم يجز النهي عنه، لأنّ من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه، فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح.
قوله: "طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ". في رفعها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: "أَمْرُنَا طَاعَةٌ"، أو "المطلوب طَاعَةٌ".
والثاني: أنها مبتدأ والخبر محذوفٌ، أي: (أَمْثَل أَوْ أَوْلَى).
وقد تقدَّم أَنَّ الخبر متى كان في الأصل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه، كقوله:
{ { صَبْرٌ جَمِيلٌ } [يوسف: 83]، ولا يبرز إلاّ اضطراراً، كقوله:

3853- فَقَالَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَمرُكَ طَاعَةٌ وإنْ كُنْتُ قَدْ كُلِّفْتُ مَا لَمْ أُعَوَّدِ

على خلاف في ذلك.
والثالث: أن يكون فاعله بفعل محذوف، أي: ولتكن طاعة، ولتوجد طاعة.
واستضعف ذلك بأنَّ الفعل لا يحذف إلاَّ (إذا) تقدَّم مشعر به، كقوله:
{ { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [النور: 36] في قراءة من بناه للمفعول، أي: يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. أو يجاب به نفيٌ، كقولك: بلى زيدٌ لمن قال: "لم يقم أحدٌ". أو استفهام كقوله:

3854- أَلاَ هَلْ أَتَى أُمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَل بَلَى خَالِدٌ إنْ لَمْ تَعُقْه العَوَائِق

وقرأ زيد بن علي واليزيديّ: "طاعةً" بنصبها بفعل مضمر، وهو الأصل. قال أبو البقاء:
ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً في العربية، وذلك على المصدر، أي: أطيعوا طاعةً وقولوا قولاً، وقد دلَّ عليه قوله بعدها: { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } قال شهاب الدين: (قوله: (ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً) قد تقدم النقل لقراءته). وأما قوله: (وقولوا قولاً) فكأنه سبق لسانه إلى آية القتال، وهي:
{ { فَأَوْلَىٰ لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } [محمد: 20، 21] ولكن النصب هناك ممتنع أو بعيد.
فصل
المعنى: هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد، وهي معروفة، أي: أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون، قاله مجاهد. وقيل: طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل. وقال مقاتل بن سليمان: لتكن منكم طاعة معروفة. هذا على قراءة الرفع. وأما على قراءة النصب فالمعنى: أطيعوا الله طاعةً و{ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي: لا يخفى عليه شيء من سرائركم، فإنه فاضحكم لا محالة، ومجازيكم على نفاقكم، ثم قال: { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ (وَأَطِيعُواْ) ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي: عن طاعة الله ورسوله "فَإِنَّمَا عَلَيْه" أي: على الرسول "مَا حُمِّلَ" كلِّف وأمر به من تبليغ الرسالة { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } من الإجابة والطاعة. وقرأ نافع في رواية: { فَإنَّمَا عَلَيْهِ مَا حَمل } بفتح الحاء والتخفيف أي: فعليه إثم ما حمل من المعصية.
{ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } أي: تصيبوا الحق، وإن عصيتموه، فـ { مَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ }، و"البَلاَغُ" بمعنى: التبليغ. و"المُبِينُ": الواضح.
قوله: "فَإِنْ تَوَلَّوا" يجوز أن يكون ماضياً، وتكون الواو ضمير الغائبين ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، وحسَّن الالتفات هنا كونه لم يواجههم بالتولِّي والإعراض، وأن يكون مضارعاً حذفت إحدى تاءيه، والأصل: "تَتَوَلَّوا"، ويُرَجّح هذا قراءة البزِّيِّ: بتشديد (التاء "فَإنْ) تَّولَّوا". وإن كان بعضهم يستضعفها للجمع بين ساكنين على غير حدِّهما.
ويرجّحه أيضاً الخطاب في قوله: { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ }، ودعوى الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ثانياً بعيد.