التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً
٧٥
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً
٧٦
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
٧٧
-الفرقان

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ } أي: يثابون الغرفة، وهي الدرجة العالية. و"الغُرْفَة" مفعول ثان لـ "يُجْزَونَ"، والغُرْفَةُ كُلُّ بِنَاء مرتفع، والجمع غُرَفٌ.
قوله: "بِمَا صَبَرُوا" أي بِصَبْرِهم، أي: بِسَببه أو بسبب الذي صبروه، والأصل: صبروا عليه، ثم حذف بالتدريج. والباء للسببية كما تقدم، وقيل: للبدل، كقوله:

3893- فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْماً...

ولا حاجة إلى ذلك. وذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه، ليعمّ جميع أنواع المشاقّ، ولا وجه لقول من يقول: المراد الصبر على الفقر خاصة.
قوله: "وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا" قرأ الأخوان وأبو بكر بفتح الياء وسكون اللام من لَقِيَ يَلْقَى، والباقون بضمها، وفتح اللام وتشديد القاف على بنائه للمفعول، كقوله:
{ { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [الإنسان: 11]. والتحيّة الدعاء بالتعمير، أي: بقاء دائماً، وقيل: الملك. والسلام الدعاء بالسلامة، أو يسلم بعضهم على بعض. وهذه التحيّة والسلام يمكن أن يكون من الله كقوله { { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58]. ويمكن أن يكون من الملائكة لقوله: { { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ } [الرعد: 23 - 24]. ويمكن أن يكون بعضهم على بعض.
قوله: { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً }. وصف ذلك بالدوام بقوله: "خالدين فيها"، وقوله: { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي: موضع قرار وإقامة، وهذا في مقابلة قوله:
{ { سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [الفرقان: 66] أي: ما أسوأ ذاك وأحسن هذا.
قوله: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي }. قال مجاهد وابن زيد: أي: ما يصنع وما يفعل بكم. قال أبو عبيدة: يقال: ما عَبَأْت به شيئاً، أي: لم أُبَالِهِ، فوجوده وعدمه سواء. وقال الزجاج: معناه لا وزن لكم عندي والعبء في اللغة الثقل. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما يبالي ربكم، ويقال: ما عبأت بك، أي: ما اهتممت ولا اكترثت، ويقال: عبأت الجيش وعبأته، أي: هيأته وأعددته. قوله: "لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ" جوابها محذوف لدلالة ما تقدم، أي: لولا دعاؤكم ما أعبأ بكم ولا أكترث، و"ما" يجوز أن تكون نافية، وهو الظاهر، وقيل: استفهام، بمعنى النفي، ولا حاجة إلى التجوز في شيء يصح أن يكون حقيقة بنفسه. و"دُعَاؤُكُمْ" يجوز أن يكون مضافاً للفاعل، أي: لولا تضرّعكم إليه، ويجوز أن يكون مضافاً للمفعول، أي: لولا دعاؤكم إيّاهُ إلى الهدى.
فصل
ومعنى هذا الدعاء وجوه:
الأول: لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كما قال تعالى:
{ { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [العنكبوت: 65].
الثاني: لولا شكركم له على إحسانه، لقوله:
{ { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } [النساء: 147].
الثالث: لولا عبادتكم.
الرابع: لولا إيمانكم.
وقيل المعنى: ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم. وقيل: المعنى: قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه، يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]. قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: معناه ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة، أو ما يفعل الله بعذابكم لولا شرككم كما قال: { { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [النساء: 147].
قوله: "فَقَدْ كَذَّبْتُمْ" أيها الكافرون يخاطب أهل مكة، يعني أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه. وقرئ "فقد كذب الكافرون" قوله: { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي: فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم، وهذا عقاب الآخرة، ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك.
قوله: "لِزَاماً" قرئ بالفتح يعني اللزوم كالثبات والثبوت.
قال ابن عباس: موتاً. وقال أبو عبيدة: هلاكاً. وقال ابن زيد: قتالاً والمعنى: يكون التكذيب لازماً لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله. وقال ابن جريج: عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً مُفْنِياً يلحق بعضكم ببعض. قال ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومجاهد ومقاتل: هو يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازماً لهم. وقال عبد الله بن مسعود: خمس قد مضين الدخان والقمر واليوم والبطشة واللزام: { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }. روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من قرأ سورة الفرقان بعثه الله يوم القيامة وهو يؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، ودخل الجنة بغير حساب" .