التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
١٨
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
١٩
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ
٢٠
فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢١
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
٢٢
-الشعراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً }. اعلم أن في الكلام حذفاً، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به، فعند ذلك قال فرعون ما قال. روي أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه، فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى، فعدد عليه نعمه أولاً ثم إساءة موسى إليه. أما النعم فهي قوله: { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } والوليد: الصبي، لقرب عهده من الولادة. وقيل: الغلام، تسيمة له بما كان عليه. و "وَلِيداً" حال من مفعول [نُرَبِّك]، وهو فعيل بمعنى مفعول. قوله { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } قرا أبو عمرو في رواية بسكون الميم "عُمْرِكَ تخفيفاً لـ "فُعُل"، و "مِنْ عُمْرِكَ" حال من "سِنِينَ".
قيل: لبث عندهم ثلاثين سنة، وقيل: وكَز القبطي، وهو ابن اثنتي عشرة سنة قوله "وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ". قرأ الشعبي: "فِعْلَتَكَ" بالكسر على الهيئة، لأنها نوع من القتل، وهي الوَكْزَةُ { وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }. يجوز أن يكون حالاً. قال ابن عباس: أي: وأنت من الكافرين لنعمتي أي: وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة، وقد افترى عليه أو جهل أمره؛ لأنه كان يعاشرهم بالتَّقيَّة، فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة. ويجوز أن يكون مستأنفاً، ومعناه وأنت ممن عادته كفران النعم، ومن كانت هذه حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمه. وقيل: "مِنَ الكَافِرينَ" بفرعون وإلاهيَّته، أو من الذين يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونها بدليل قوله:
{ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [الأعراف: 127] قوله: { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ }. "إذاً" هنا حرف جواب فقط. قال الزمخشري: إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً قال: فإِنْ قُلْتَ: (إذاً) حرف جواب وجزاءً معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون: "وفَعَلْتَ فَعْلتكَ" فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تُجَازَى بنحو ذلك الجزاء.
قال أبو حيان: وهذا مذهب سيبويه، يعني: أنها للجزاء والجواب معاً، قال: ولكن شراح الكتاب فهموا أنها قد تتخلف عن الجزاء، والجواب معنى لازم لها.
فصل
واعلم أن فرعون عدد عليه نعمه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل أجناده، وعظم ذلك بقوله: { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ }.
ولما ذكر فرعون التربية ذكر القتل، وكانت تربيته معلومة ما أنكرها موسى - عليه السلام - وقد تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجزة وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم ينعم، صار قول فرعون غير مؤثر فالإعراض عنه أولى، ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب، فقال: { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } أي: من الجاهلين، أي: لم يأتني من عند الله شيء، أو من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله، لأنه وكزه تأديباً، ومثل ذلك ربما حَسُن. وقيل: من المخطئين، فبين أنه فعله على وجه لا تجوز المؤاخذة به، فيعد كافراً لنعمه.
قوله: { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ }. العامة على تشديد ميم "لَمَّا" وهي "لَمَّا" التي هي حرف وجوب عند سيبويه. أو بمعنى "حِينَ" عند الفارسي. وروي عن حمزة بكسر اللام وتخفيف الميم، أي: لِتَخَوُّفِي مِنْكُمْ، و "ما" مصدرية. وهذه القراءة تشبه قراءته في "آل عمران":
{ لَمَآ آتَيْتُكُم } [آل عمران: 81]. وقد تقدمت مستوفاة.
(قال الزمخشري: إنما جمع الضمير في "مِنْكُمْ" و "خِفْتُكُمْ" مع إفراده في "تَمُنُّهَا" و "عَبَّدْتَ"، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله لقوله:
{ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [القصص: 20]، وأما الامتنان والتعبد فمنه وحده).
فصل
والمعنى: إني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً، وكان مني في حكم السهو، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار، ومع ذلك فررت منكم لما خفتكم عن قولكم:
{ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [القصص: 20] فبين بذلك ألاّ نعمة له عليه في الفعلة، بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب.
فصل
وقد ورد لفظ "الفرار" على أربعة:
الأول: بمعنى الهرب، كهذه الآية، ومثله
{ لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ } [الأحزاب: 16].
الثاني: بمعنى الكراهية، قال تعالى:
{ قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ } [الجمعة: 8] أي: تكرهونه.
الثالث: بمعنى اشتغال المرء بنفسه، قال تعالى:
{ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [عبس: 34 -35] أي: لا يلتفت إليهم، لاشتغاله بنفسه.
الرابع: بمعنى التباعد، قال تعالى:
{ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } [نوح: 6] أي: تباعداً. ثم بين نعم الله عليه بعد الفرار، فكأنه قال: أسأتم وأحسن الله إليَّ بأن وهب لي حكماً. قرأ عيسى: "حُكُماً" بضم الكاف إتباعاً. والمراد بالحكم: العلم والفهم، قاله مقاتل: وقيل: النبوة. والأول أقرب، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، والنبوة مفهومة من قوله: { وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }.
قوله: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر على سبيل التهكم، أي: إنْ كَانَ ثمَّ نعمة فليست إلاَّ أنك جعلت قومي عبيداً لك. وقيل: "ثَمَّ" حرف استفهام محذوف لفهم المعنى، أي: "أَوَ تِلْكَ"، وهذا مذهب الأخفش، وجعل من ذلك:

3898 - أَفْـــرَحُ انْ أُرْزَأَ الــكِـــرَامَ

وقد تقدم هذا مشبعاً في النساء عند قوله: { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [النساء: 79] وفي غيره.
قوله: "أَنْ عَبَّدْتَ" فيه أوجه:
أحدها: أنه في محل رفع عطف بيان لـ "تِلْكَ" كقوله:
{ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ } [الحجر: 66].
الثاني: أنها في محل نصب مفعولاً من أجله.
الثالث: أنها بدل من "نِعْمَة".
الرابع: أنها بدل من هاء "تَمُنُّهَا".
الخامس: أنها مجرورة بباء مقدرة، أي: بأَنْ عَبَّدْتَ.
السادس: أنها خبر مبتدأ مضمر، أي: هي أن عَبَّدْتَ.
السابع: أنها منصوبة بإضمار "أعني" والجملة من "تَمُنُّهَا" صفة لـ "نِعْمَة" و "تَمُنُّ" يتعدى بالباء، فقيل: هي محذوفة، أي: تَمُنُّ بها.
وقيل: ضُمِّنَ "تَمُنُّ" معنى "تَذْكُرُ". ويقال: عبّدت الرجل وأعبدته وتعبدته واستعبدته: [إذا اتخذته عبداً].
فصل
اختلفوا في تأويل "أَنْ عَبَّدْتَ": فحملها بعضهم على الإقرار، وبعضهم على الإنكار. وعلى كلا القولين فهو جواب لقوله: { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا } [الشعراء: 18].
فمن قال: هو إقرار، قال: عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل، أي: بلى و { تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } وتركتني فلم تستعبدني. ومن قال: هو إنكار قال: قوله: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ" هو على طريق الاستفهام، كما تقدم في إعرابها، يعني: أَوَ تِلْكَ نعمة، فحذفت ألف الاستفهام، كقوله:
{ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] وقال الشاعر:

3899 - تَـرُوحُ مِنَ الحَـيِّ أَمْ تَبْتَكِـرْ وَمَاذَا يَضِيــرُكَ لَـوْ تَنْتَظِــرْ

أي: أتروح من الحي، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:

3900 - لَـمْ أَنْـسَ يَـوْمَ الرَّحِيـلِ وَقْفَتِهَـا وَطَرْفُهَــا فِـي دُمُوعِهَـا غَــرِقُ
وَقَـوْلَهَــا والرِّكـابُ واقِفَــةٌ تَتْرُكُنِـي هكَـذَا وَتَنْطَــلِقُ

أي: أتتركني. يقول: تمنّ عليَّ أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملة القبيحة. أو يريد: كيف تَمُنُّ عليَّ بالتربية، وقد استعبدت قومي؟ ومن أُهين قومه ذلّ، فتعبّدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليّ.
وقال الحسن: إنك استعبدت بني إسرائيل، فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليَّ فلا نعمة لك بالتربية. وقيل: إن الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا نعمة لك عليَّ، لأن التربية كانت من قبل أمي ومن قومي، ليس لك إلا مجرد الاسم، وهذا ما يعدّ إنعاماً. وقيل: معناه: تَمُنَّ عليَّ بالتربية وأنت لولا استعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم لما دُفِعْتُ إليك حتى ربيتني وكفلتني، فإنه كان لي من أهلي من يربِّيني ويكفلني، ولم يلقوني في اليمِّ، فأيّ نعمة لك عليَّ. وقيل: معناه أنك تدَّعي أن بني إسرائيل عبيدك، ولا مِنَّة للمولى على العبد في تربيته.