التفاسير

< >
عرض

وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ
٥٢
فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ
٥٣
إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ
٥٤
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ
٥٥
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ
٥٦
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٥٧
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
٥٨
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
٥٩
فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ
٦٠
فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
٦١
قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
٦٢
-الشعراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ }. قرىء "أَسْرِ" بقطع الهمزة ووصلها.
لما ظهر من أمر موسى - عليه السلام - ما شاهدوه أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل، لما كان في المعلوم من تدبير الله وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم، ولم يأمن. وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع في فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال، فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل، وهم الذين آمنوا، وكانوا من قوم موسى - عليه السلام -. واعلم أن في الكلام حذفاً، وهو أنه أسرى بهم كما امره الله تعالى، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون: "إن لنا في هذه الليلة عيداً"، ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع فرعون ذلك أرسل في المدائن حاشرين يحشرون الناس، يعني الشُّرط ليجمعوا السحرة. وقيل: ليجمعوا له الجيش روي أنه كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية. و "حَاشِرِينَ" مفعول "أَرْسَلَ" ثم إنه قوى نفسه ونفس قومه بأن وصف قوم موسى بالذم، ووصف قوم نفسه بالمدح، أما وصفه قوم موسى - عليه السلام - بالذم، فقال: { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ } [معمول لقول مضمر] أي: قال: إنَّ هؤلاء، وهذا القول يجوز أن يكون حالاً، أي: أرسلهم قائلاً ذلك، ويجوز أن يكون مفسراً لـ "أَرْسَلَ". والشِّرْذِمَةُ: الطائفة من الناس وقيل: كل بقية من شيء خسيس يقال لها: شرذمة. ويقال: ثوب شراذم، أي: أخلاق، قال:

3903 - جَـاءَ الشِّتَـاءُ وَقَمِيصِـي أَخْـلاقْ شَـرَاذِمُ تَضْحَـكُ مِنْـهُ الخُـلاقْ

وأنشد أبو عبيدة:

3904 - فــي شــراذم النـعــال

وجمع الشرذمة: شراذم، فذكرهم بالاسم الدال على القلة، ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً، واختار جمع السلامة الذي هو جمع القلة.
ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة، لا قلة العدو، أي: إنهم لقلتهم لا يبالى بهم.
قال ابن عباس: كان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم لكثرة من معه. وهذا الوصف قد استعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثمانمائة ألف.
قوله: { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ }. يقال: غَاظَهُ وَأَغَاظَهُ وَغَيَّظَهُ: إذا أغضبه. والغيظ، الغضب. والمعنى: أنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا. واختلفوا في تلك الأفعال. فقيل: أخذهم الحليّ وغيره. وقيل: خروجهم عن عبوديته. وقيل: خروجهم بغير إذنه، وقيل: مخالفتهم له في الدين. وقيل: لأنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً.
وأما وصفه قومه فهو قوله: { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ }. قرأ الكوفيون وابن ذكوان: "حاذرون" بألف. والباقون: "حذرون" بدونها. فقال أبو عبيدة والزجاج: هما بمعنى واحد، يقال: رجل حذر وحاذر بمعنى.
وقيل: بل بينهما فرق، فالحذر: المتيقظ. والحاذر: الخائف. وقيل: الحذر: المخلوق مجبولاً على الحذر. والحاذر: ما عرض له ذلك.
وقيل: الحذر: المتسلح الذي له شوكة سلاح، وأنشد سيبويه في إعمال "حَذِر" على أنه مثال مبالغة محول من حاذر قوله:

3905 - حَـذِرٌ أُمُـوراً لاَ تَضِيـرُ وَآمِـنٌ مَـا لَيْـسَ مُنْجِيــهِ مِـنَ الأَقْــدَارِ

وزعم بعضهم أن سيبويه لمَّا سأله: هل يحفظ شيئاً في إعمال "فَعِل"؟ صنع له هذا البيت، فعيب على سيبويه: كيف يأخذ الشواهد الموضوعة؟
وهذا غلط، فإن هذا الشخص قد أقر على نفسه بالكذب، فلا يقدح قوله في سيبويه. والذي ادعى انه صنع البيت هو الأخفش. و "حَذِر" يتعدى بنفسه، قال تعالى:
{ يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ } [الزمر: 9]، وقال العباس بن مرداس:

3906 - وَإِنِّـي حَــاذِرٌ أَنْمِــي سِـلاَحِــي إلَــى أَوْصَــالِ ذَيَّالٍ مَنِيـعِ

وقرأ ابن السميفع وابن أبي عمار: "حَادِرُونَ" بالدال المهملة من قولهم عين حدرة، أي: عظيمة، كقولهم:

3907 - وَعَيْــنٌ لَهَــا حَــدْرَةٌ بَــدْرَةٌ

والمعنى: عظيماً. وقيل: الحادر: القوي الممتلىء، وحكي: رجل حادر، أي: ممتلىء غيظاً، ورجل حادر، أي: أحمق، كأنه ممتلىء من الحمق قال:

3908 - أُحِــبُّ الغُــلاَمَ السُّــوءَ مِـنْ أَجْـلِ أُمِّـه وَأَبْغَضُـهُ مِـنْ بُغْضِهَــا وَهْـوَ حَادِرُ

ويقال أيضاً رجل [حَدُرٌ بزنة يقظ مبالغة في (حادر) من هذا المعنى، فصار يقال] حَذِر وحَذُر وحَاذِرِ بالذال المعجمة والمهملة والمعنى مختلف.
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهو اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث. وإذا لم تكن كذلك وهي المشبهة [أفادت الثبوت. فمن قرأ "حَذِرُونَ"] ذهب إلى معنى أنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ: "حَاذِرُون" ذهب إلى معنى: إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا. ومن قرأ: "حَادِرُون" بالدال المهملة، فكأنه ذهب إلى نفي أصلاً، لأن الحادر هو السمين، فأراد: إنا قوم أقوياء أشداء، أو أراد: إنا شاكون في السلاح. والغرض من هذه التقادير ألا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى، أو خائف منهم.
قوله: "فَأَخْرَجْنَاهُمْ". أي: خلقنا في قلوبهم داعية الخروج، فاستلزمت الداعية الفعل، فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة.
وقوله: { مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ } أي: أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة. قال مجاهد: سماها كنوزاً، لأنه لم يعط حق الله منها، وما لم يعط الله منه فهو كنز وإن كان ظاهراً.
قوله: "وَمَقَامٍ". قرأ العامة بفتح الميم، وهو مكان القيام. وقتادة والأعرج بضمها وهو مكان الإقامة. والمراد بـ "الكَرِيم": الحسن.
قال المفسرون: هي مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع.
وقيل: المواضع التي كانوا [يتنعمون فيها].
قوله: "كَذَلِكَ". فيه ثلاثة أوجه: قال الزمخشري: يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف لـ "مَقَام" أي: ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك. قال أبو حيان: فالوجه الأول لا يسوغ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه، وكذلك الوجه الثاني؛ لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم، فلا يشبه الشيء بنفسه. قال شهاب الدين: وليس في ذلك تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن المراد في الأول: أخرجناهم إخراجاً مثل الإخراج المعروف المشهور، وكذلك الثاني.
قوله: "وَأَوْرَثْنَاها" عطف على "فَأَخْرَجْنَاهُمْ" أي: وأورثناها بهلاكهم بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن.
قوله: "فَأَتْبَعُوهُمْ". قرأ العامة بقطع الهمزة من "أَتْبعه" أي: ألحقه نفسه، فحذف الثاني. وقيل: يقال: أَتْبعه بمعنى "اتبعه" بوصل الهمزة، أي: لحقه.
وقرأ الحسن والحارث الذَّمَّارِيّ بوصلها وتشديد التاء، وهي بمعنى اللحاق.
وقوله: "مُشْرِقِينَ" أي: داخلين في وقت الشروق من: شَرَقت الشمس شروقاً: إذا طلعت كـ "أصبح، وأمسى": إذا دخل في هذين الوقتين. وقيل: داخلين نحو المشرق كـ "أَنْجَد، وأَتْهَم". و "مُشْرِقِين" منصوب على الحال، والظاهر أنه من الفاعل. وقيل: "مُشْرِقِين" بمعنى: مضيئين. وفي التفسير: أنّ بني إسرائيل كانوا في نور، والقبط في ظلمة، فعلى هذا يكون "مُشْرِقِين" حالاً من المفعول. قال شهاب الدين: وعندي أنه يجوز أن يكون حالاً من الفاعل والمفعول إذا جعلنا "مُشْرِقِين": داخلين في وقت الشروق، أو في مكان المشرق، لأن كلاً من القبيلين كان داخلاً في ذلك الزمان، أو في ذلك المكان.
قوله: { فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ } أي: تقابلا ورأى بعضهم بعضاً. قرأ العامة: "تَرَاءَى" بتحقيق الهمزة. وابن وثاب والأعمش من غير همز، بأن تكون الهمزة مخففة بين بين، لا بالإبدال المحض، لئلا يجتمع ثلاث ألفات، الأولى الزائدة بعد الراء، والثانية المبدلة من الهمزة، والثالثة لام الكلمة، لكن الثالثة لا تثبت وصلاً لحذفها لالتقاء الساكنين، ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فنقول: هذا الحرف إما أن يوقف عليه أو لا، فإن وقف عليه فحمزة يميل ألفه الأخيرة؛ لأنها طرف منقبلة عن ياء. ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الهمزة المسهلة، لأنه إذا وقف على مثل هذه سهلها على مقتضى مذهب، وأمال الألف الأولى إتباعاً لإمالة فتحة الهمزة. ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الراء قبلها، وهذا هو الإمالة لإمالة. وغيره من القراء لا يميل شيئاً من ذلك. وقياس مذهب الكسائي أن يميل الألف الأخيرة، وفتحة الهمزة قبلها، وكذا نقله ابن الباذش عنه وعن حمزة.
وإن وصل فإن الألف الأخيرة تذهب لالتقاء الساكنين، ولذهابها تذهب إمالة فتحة الهمزة، وتبقى إمالة الألف الزائدة، وإمالة فتحة الراء قبلها عنده اعتداداً بالألف المحذوفة، وعند ذلك يقال: حذف السبب وبقي المسبب؛ لأن إمالة الألف الأولى إنما كان لإمالة الألف الأخيرة [كما تقدم تقريره، وقد ذهبت الأخيرة] فكان ينبغي ألا تمال الأولى لذهاب المقتضي لذلك، ولكنه راعى المحذوف وجعله في قوة المنطوق؛ ولذا تجرأ عليه أبو حاتم فقالك وقراءة هذا الحرف بالإمالة محال. وقد تقدم في الأنعام عند "رَأَى القَمَرَ" و "رَأَى الشَّمْسَ" ما يشبه هذا العمل.
قوله: "لَمَدْرَكُونَ". العامة على سكون الدال، اسم مفعول من "أَدْركَ" أي: لملحقون. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمرو بفتح الدال مشددة وكسر الراء.
قال الزمخشري: المعنى: متتابعون في الهلاك على أيديهم، ومنه بيت الحماسة:

3909 - أَبَعْـدَ بَنِــي أُمِّـي الَّـذِيـنَ تَتَـابَعُــوا أُرَجِّــي الحَيَــاةَ أَمْ مِــنَ المَــوْتِ أَجْــزَعُ

يعني: أن "ادَّرَك" على "افتعل" لازم بمعنى فني واضمحلّ، يقال: ادَّرَكَ الشيء يدَّرك فهو مدَّرَك، أي: فني متتابعاً، ولذلك كسرت الراء. وممن نص على كسرها أبو الفضل الرازي، قال: "وقد يكون "ادَّرَك" على "افتعل" بمعنى "أفعل" متعدياً، ولو كانت القراءة من هذا لوجب فتح الراء ولم يبلغني عنهما - يعني: عن الأعرج وعبيد - إلا الكسر".
فصل
المعنى { فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ }، أي: رأى كل فريق صاحبه.
وقرىء "فَلَمَّا تَرَاءْتِ الفِئَتَانِ" قال أصحاب موسى: "إنَّا [لَمُدْرَكُونَ" أي] لَمُلْحَقُون، وقالوا: يا موسى
{ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا } [الأعراف: 129] كانوا يذبحون أبناءنا، { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [الأعراف: 129] يدركوننا في هذه الساعة فيقتلوننا، ولا طاقة لنا بهم، فعند ذلك قال موسى ثقة بوعد الله إياه "كَلاّ" وذلك كالمنع مما توهموه، أي: لن يدركونا { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } يدلني على طريق النجاة.