التفاسير

< >
عرض

فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ
٦٣
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ
٦٤
وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ
٦٥
ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ
٦٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
٦٧
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٦٨
-الشعراء

اللباب في علوم الكتاب

قوله: [{ فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ }. لما قال موسى: { { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62] بين تعالى كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه، فقال]: { فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ } ولا بد قبله من جملة محذوفة، أي: فضرب فانفلق. وزعم ابن عصفور ان المحذوف إنما هو: "ضرب" وفاء: "انفلق". وأن الفاء الموجودة هي فاء "فَضَرَبَ" فأبقى من كل فعل ما يدلّ على المحذوف، أبقى الفاء من "فَضَرَبَ" ليدلّ على "ضَرَبَ" وأبقى "انْفَلَقَ" ليدل على الفاء المتصلة به.
قوله: { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ } اختلف القراء في ترقيق راء "فرق" فروي عن ورش الترقيق لأجل القاف. وقرىء: "فِلْق" بلام بدل الراء، لموافقة "فانفلق" والطود: الجبل العظيم المتطاول في السماء.
فصل
قال ابن جريج: لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال قال يوشع: يا مكلم الله، أين أمرت؟ فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا، فقال موسى: ها هنا. فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه: يا مكلم الله، أين أمرت؟ قال: هاهنا. فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء، وصنع القوم مثل ذلك، فلم يقدروا، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه لا يبتلّ سرجه ولا لبده، وهذا معجز عظيم من وجوه:
أحدها: أن تفرق ذلك الماء معجز.
وثانيها: ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم، فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عدد بني إسرائيل، وهذا معجز ثالث.
ورابعها: أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر بعضهم إلى بعض، وهذا معجز رابع.
وخامسها: أن بقّى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخلّصوا من البحر كما تخلّص موسى - عليه السلام - فهو معجز خامس.
قوله: "وَأَزْلَفْنَا" أي: قربنا من النجاة، و "ثَمَّ" ظرف مكان بعيد، و "الآخرِينَ" هم موسى وأصحابه. وقرأ الحسن وأبو حيوة: "وَزَلَفْنَا" ثلاثياً.
وقال أبو عبيدة: أَزْلَفْنَا: جمعنا، ومنه: ليلة المزدلفة، أي: ليلة الجمع.
وفي القصة أن جبريل كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون، وكان يسوق بني إسرائيل ويقول: ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط، ويقول: رويدكم لكي يلحق آخركم. وقرأ أبيّ وابن عباس وعبد الله بن الحارث بالقاف، أي: أزللنا، والمراد بـ"الآخرين" جعله لبني إسرائيل يبساً فيزلقهم فيه.
قوله: { وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ }. والمعنى: أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى، حتى خرجوا عنه، وأغرق فرعون ومن معه، لأنه لما تكامل دخولهم في البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا.
قوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي: إن في الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرة الله تعالى؛ لأن أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته، وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا، وعلى صدق موسى لكونه معجزة له، وعلى التحذير عن مخالفة أمر الله ورسوله، وفيه تسلية للنبي - عليه السلام - لأنه قد يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه، فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره.
ثم قال: { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } أي: من أهل مصر. قيل: لم يكن من أهل مصر إلا آسية امرأة فرعون وحزقيل المؤمن، ومريم بنت ناموشا التي دلت على عظام يوسف - (عليه السلام) - "وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ العَزِيزُ" في الانتقام من أعدائه "الرَّحيمُ" بعباده، لأنه تعالى أفاض عليهم أصناف نعمه، وكان قادراً على أن يهلكهم، فدل على كمال رحمته وسعة جوده وفضله.