التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ
٢٦
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٢٧
ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
٢٨
قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ
٢٩
-النمل

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } هل هو من كلام الهدهد استدراكاً منه لمَّا وصف عرش بلقيس بالعظم، أو من كلام الله تعالى رَدّاً عليه في وصفه عرشها بالعظم. والعامة على جر "العَظِيمِ" تابعاً للجلالة، وابن محيصن، بالرفع وهو يحتمل وجهين: أن يكون نعتاً للربّ، وأن يكون مقطوعاً عن تبعيَّةِ "العرش" إلى الرفع بإضمار مبتدأ.
فصل
دلّ قوله:
{ يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [النمل: 25] على كمال القدرة، وسمي المخبوء بالمصدر ليتناول جميع الأرزاق والأموال، فدلَّ قوله: { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [النمل: 25] على كمال العلم، وإذا كان قادراً على كل المقدرات عالماً بكل المعلومات، وجب أن يكون إلهاً، والشمس ليست كذلك، فلا تكون إلهاً، وإذا لم تكن إلهاً، لم تستحق العبادة. فإن قيل: إنَّ إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق، فإِنَّ إبراهيم قال: { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [البقرة: 258]، ثم قال: { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ } [البقرة: 258]، وموسى - عليه السلام - قال { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } [الشعراء: 26]، ثم قال: { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } [الشعراء: 28] وهاهنا قدم خبأ السموات على خبء الأرض، فجوابه، أَن إبراهيم وموسى ناظرا من ادعى إلهية البشر، فابتدءا بإبطال إلهية البشر، ثم انتقلا إلى إلهية السماء، وهاهنا الكلام مع من ادعى إلهية الشمس، لقوله { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [النمل: 24] فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات، ثم بالأرضيات.
قوله: { أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ } الجملة الاستفهامية في محل نصب بـ"نَنْظُرُ"، لأنَّها مُعلّقة لها، و "أَمْ" هنا متصلة، وقوله: { أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } أبلغ من قوله: "أَمْ كَذَبْتَ" - وإن كان هو الأصل - لأنّ المعنى من الذين اتصفوا وانخرطوا في سلك الكاذبين. وقوله: "سَنَنْظُرُ" من النظر الذي هو التأمل. قوله: "هذَا" يجوز أن يكون صفة لـ"كِتَابِي" أو بدلاً منه أو بياناً له.
قال المفسرون: إن سليمان - عليه السلام - كتب كتاباً فيه: "من عند سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم، السَّلامُ على من اتَّبع الهُدَى، أما بعد، أَلاَّ تَعْلُوا عليَّ وَأْتُوني مُسلمين". قال ابن جريج: لم يزد سليمان على ما قصّه الله في كتابه، ثم ختمه بخاتمه، ثم قال للهدهد: "اذْهَبْ بِكَتَابِي هذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ".
قوله: "فَأَلْقِهِ"، قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر بإسكان الهاء، وقالون بكسرها فقط من غير صلة بلا خلاف عنه، وهشام عنه وجهان: القصر والصلة، والباقون بالصلة بلا خلاف، وتقدم توجيه ذلك في "آل عمران" و "النساء" وغيرهما، عند
{ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [آل عمران: 75] و { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ } [النساء: 115]. وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء موصولة بواو "فَأَلْقِهُو إِلَيْهِمْ"، وقد تقدم أن الضم الأصل، وقال "إليهم" - على لفظ الجمع - لأنه قال: { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ } [النمل: 24] والمعنى: فألقه إلى الذين هذا دينهم.
قوله: { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ }، زعم أبو علي وغيره أن في الكلام تقديماً، وأن الأصل: فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم. ولا حاجة إلى هذا، لأن المعنى بدونه صحيح، أي: قف قريباً منهم لتنظر ماذا يكون.
قوله: "مَاذَا يَرْجِعُونَ" إن جعلنا (انظر) بمعنى: تأمل وتفكر كانت "ما" استفهامية، وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أن يجعل مع "ذا" بمنزلة اسم واحد، وتكون مفعولة بـ"يرجعون" تقديره: أي شيء ترجعون.
والثاني: أن يجعل "ما" مبتدأ، و "ذا" بمعنى الذي، و "يرجعون" صلتها، وعائدها محذوف تقديره: أي شيء الذي يرجعونه، وهذا الموصول هو خبر ما الاستفهامية, وعلى التقديرين فالجملة الاستفهامية مُعَلِّقة لـ "انظر" فمحلّها النصب على إسقاط الخافض أي: انظر في كذا وفكر فيه وإن جعلناه بمعنى انتظر من قوله
{ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [الحديد: 13] كانت "مَاذَا" بمعنى الذي، (و "يَرْجعُونَ" صلتها وعائدها محذوف)، والعائد مقدّر كما تقرر وهذا الموصول مفعول به، أي: انتظر الذي يرجعون. قال أبو حيان: و "ماذا" إن كان معنى "فانظُر" معنى التأمل بالفكر كان انظر معلقاً، و "ماذا" إما أن يكون كلمة استفهام في موضع نصب، وإما أن يكون "ما" استفهاما، و "ذا" موصولة بمعنى الذي، فعلى الأول يكون "يرجعون" خبراً عن "ماذا"، وعلى الثاني يكون "ذا" هو الخبر، و "يرجعون" صلة انتهى.
وهذا غلط إما من الكاتب، وإما من غيره؛ وذلك أن قوله: "فعلى الأول" يعني به أن "ماذا" كلمة استفهام في موضع نصب يمنع قوله: "يَرْجِعُونَ" خبراً عن "ماذا"، كيف يكون خبراً عنه وهو منصوب به كما تقرر، وقد صرَّح هو بأنه منصوب يعني بما بعده ولا يعمل فيه ما قبله، وهذا نظير ما تقدم في آخر السورة قبلها في قوله:
{ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [الشعراء: 227] في كون اسم الاستفهام معمولاً لما بعده، وهو معلق لما قبله، فكما حكمت على الجملة من "يَنْقَلِبُونَ" وما اشتملت عليه من اسم الاستفهام المعمول لها بالنصب على سبيل التعليق، كذلك يحكم على "يَرْجِعُونَ" فكيف تقول: إنها خبر؟