التفاسير

< >
عرض

قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ
٣٤
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ
٣٥
فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
٣٦
ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
٣٧
-النمل

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } بالقهر "أَفْسَدُوهَا": خرّبوها، { وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً }، فذكرت لهم عاقبة الحرب، وحذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم.
قوله: { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } أي: مثل ذلك الفعل يفعلون، وهل هذه الجملة من كلامها - وهو الظاهر - فتكون منصوبة بالقول، أو من كلام الله تعالى، فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها.
قوله: { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ }: ما بعث على وجه الإكرام، وهي اسم للمهدى، فيحتمل أن يكون اسماً صريحاً، ويحتمل أن تكون - في الأصل - (مصدراً أطلق على اسم المفعول، وليست مصدراً قياسياً، لأن الفعل منه: أهدى رباعياً، فقياس) مصدره: إهداء.
فصل
اعلم أنَّ بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها: { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ }، أي: لسليمان وقومه "بِهَديَّةٍ" أصانعه على ملكي وأختبره بها أَمَلِكٌ أَم نبيّ، فإن يكن ملكاً قبل الهديّة وانصرف، وإن يكن نبيّاً لم يقبل الهديّة ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قوله: { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ }، (وهذا الكلام يدل على أنّها لم تثق بالقبول وجوّزت الرد، وأرادت أن ينكشف لها غرض سليمان).
قوله: "فَنَاظِرَةٌ" عطف على "مُرْسِلَة"، و "بم" متعلق بـ "يرجع"، وقد وهم الحوفي فجعلها متعلقة بـ "نَاظِرَةٌ"، وهذا لا يستقيم، لأن اسم الاستفهام له صدر الكلام و "بم يرجع" معلق لناظرة.
قوله: { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ } أي: فلما جاء الرسول، أضمره لدلالة قولها "مرسِلة" فإنه يستلزم رسولاً، والمراد به الجنس لا حقيقة رسول واحد، بدليل خطابه لهم بالجمع في قوله: "أَتَمِدُّونَنِي.. " إلى آخره، وكذلك قرأ عبد الله: فلما جاءوا، وقرأ: "فارجعوا إليهم"، اعتباراً بالأصل المشار إليه.
قوله: "أَتُمِدُونَنِي" استفهام إنكار، وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وأما الياء فإنه يحذفها وقفاً، ويثبتها وصلاً على قاعدته في الزوائد، والباقون بنونين - على الأصل - وأما الياء فإن نافعاً وأبا عمرو كحمزة يثبتانها وصلاً ويحذفانها وقفاً، وابن كثير يثبتها في الحالين، والباقون يحذفونها في الحالين.
وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة، فتكملت ثلاثة قراءات كما في:
{ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ } [الزمر: 64].
قال الزمخشري: ما الفرق بين قولك: أتمدونني بمال وأنا أغنى منكم، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى، وهو - مع ذلك - يمدني بالمال، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفي عليه حالي، وإنما أخبره الساعة بما لا أحتاح معه إلى إمداده، كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه، وعليه ورد قوله: { فَمَآ آتَانِي ٱللَّهُ } انتهى.
وفي هذا الفرق نظر، إذ لا يفهم ذلك بمجرد الواو والفاء، ثم إنه لم يجب عن السؤال الأول، وهو أنه: لم عدل عن قوله: وأنا أغنى منكم إلى قوله: { فَمَآ آتَانِي ٱللَّهُ }؟
وجوابه: أنه أسند إيتاء الغنى إلى الله، إظهاراً لنعمته عليه، ولو قال: وأنا أغنَى منكم، كان فيه افتخار من غير ذكر لنعمة الله عليه، فأظهر - بهذا الكلام - قلة الاكتراث بذلك المال. قوله: "بَلْ أَنْتُم" إضراب انتقال، قال الزمخشري: فإن قلت: فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد، وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو أنهم لا يعرفون سبب رضى إلا مما يهدى إليهم من حظوظ الدنيا التي لا يعرفون غيرها، والهدية: يجوز إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه، وهي هنا محتملة للأمرين. قال أبو حيان: وهي هنا مضافة للمهدى إليه، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي، أي: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار.
قال شهاب الدين: كيف يجعل الأول هو الظاهر، ولم ينقل أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليهم هدية في هذه الحالة، حتى يضيفها إليهم، بل الذي يتعين إضافتها إلى المهدي. ومعنى الآية: { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ }، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها تفرحون بإهداء بعضكم لبعض، وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة. قوله: "ارْجِعْ" الظاهر أن الضمير يعود على الرسول، وتقدمت قراءة عبد الله: "ارجعوا"، وقيل: يعود على الهدهد. "فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ" وهذا جواب قسم مقدر، وكذلك قوله: "ولَنُخْرَجَنَّهُم". قوله: "لاَ قِبَلَ" صفة لـ "جُنُود"، أي: لا طاقة, وحقيقته: لا مقابلة والضمير في "بها" عائد على "جنود", لأنه جمع تكسير فيجري مجرى المؤنثة الواحدة كقولهم: الرِّجَالُ وأعضَادَها. وقرأ عبد الله "بهم" على الأصل. "ولَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا" أي من بلادهم وأرض سبأ "أَذِلَّةً" حال، والذل: أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك. قوله: "وَهُمْ صَاغِرُون" حال ثانية، والظاهر أنها مؤكدة، لأن "أَذِلَّةً" تغني عنها. فإن قيل: قوله "فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ"، و "لَنُخْرِجَنَّهُمْ" قسم، فلا بد أن يقع!‍
فالجواب: أنه معلق على شرطٍ حُذِفَ لفهم المعنى، أي: إن لم يأتوني مسلمين، والصغار: أن يقعوا في أسر واستبعاد.
فصل
قال ابن عباس: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك، ولا لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان: إني قادمة عليك بملوك قومي، حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ثم آذنت بالرحيل إلى سليمان، فلما قربت منه على فرسخ، فرأى سليما رهجاً قريباً، فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان. قال ابن عباس: وكان بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ، فأقبل سليمان حينئذٍ على جنوده، فقال: { يَٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }؟.