التفاسير

< >
عرض

يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
٢١
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٢٢
-العنكبوت

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ }، قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه (الصلاة و) السلام عنه تعالى: "سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي" لأن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب يسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد، وعقبه بالرحمة فذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده، وهذا يحقق قوله عليه (الصلاة و) السلام عنه: "سبقت رحمتي غضبي" وذلك ان الله تعالى حيث كان المقصود ذكر العذاب، لم يخصه بالذكرن بل ذكر الرحمة معه، فإن قيل: إن كان ذكر هذه الآية لتخويف العاصي، وتفريح المؤمن، فلو قال: يعذب الكافر ويرحم المؤمن لَكَانَ أدخل في تحصيل المقصود.
وقوله: { يعذب من يشاء } لا يرهب الكافر، لجواز أن يقول: لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابي.
فالجواب: هذا أبلغ في التخويف لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته، وأنه إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه إذا شاء تعذيب الكافر فلزم منه الخوف العام بخلاف ما لو قال: يعذب العَاصي، فإنه لا يدل على كمال مشيئته لأنه لا يبعد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه، وإذا لم يبعد هذا فنقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن (لا) يحصل في صورة أخرى.
ومثاله إذا قيل: إن الملك يقدر على ضرب المخالفين، ولا يقدر على ضرب المطيع فإذا قال: من خالفني أضربه يقع في وهم المخاطب أنه لا يقدر على ضرب المطيع، فلا يقدر أيضاً عليّ (لكوني مثله)، وفيه فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصياً.
قوله: "وإلَيْهِ تُقْلَبُونَ" أي تُرَدُّونَ، { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء، قال الفراء معناه: ولا من في السماء بمعجز (إنْ عَصَى) كقول حَسَّانَ:

4028 - فَمَنْ يَهْجُوا رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ويَمْدحُـهُ ويَنْصُــرُهُ سَــوَاءُ

أراد: ومن يمدحه وينصره، فأضمر "مَن" يريد لا يعجز أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء يعني (على) أن { من في السموات } عطف على "أنتم" على أصله، حيث يجوز حذف الموصول الاسميّ، ويبقى صفته.
قال قطرب: ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها، كقول القائل: (لا) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى:
{ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الرحمن: 33]، أي على تقدير أن يكونوا فيها، وأبعد من ذلك من قدره موصولين محذوفين؛ أي) وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الجن والإنس، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها (و) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي وما أنتم بمعجزين أين فائتين ما يريد الله بكم.
فصل
اعلم أن إعجاز المعذَّب عن التعذيب إما بالهرب منه، أو بالثبات ومدافعته فذكر الله تعالى القسمين فقال: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ }، يعني بالهرب لو صعدتم إلى السماء، أو هربتم إلى تُخُوم الأرض (لم) تخرجوا من قبضة قدرة الله - عزّ وجلّ -، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز بالثبات إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع، ولا يمكن المعذب مخالفته فيفوته المعذب، ويعجز عنه أو بالانتصار بقويّ يدافعه، وكلاهما محال فلهذا قال: { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ } يشفع { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفع. فإن قيل: ما الحكمة في قوله: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } ولم يقل: "ولا تعجزون" بصيغة الفعل؟
فالجواب: لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحة فإن من قال: إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه انه ليس بخائط، وقدم "الأرض" على "السماء"، و "الولي" على "النصير"؛ لأن هربهم الممكن في الأرض، فإن كان يقع منهم هرب فإنه يكون في الأرض، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيصعدون في السماء وأما الدفع فإن العاقل متى أمكنه الدفع فأجمل الطرق فيه الشفاعة، لأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك, وليس لكل أحد ناصر يعادي الملك فلذلك قدم الأرض على السماء، والولي على النَّصِير.