التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
٢
وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ
٣
-العنكبوت

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف، فإنها مشاق في الحال، ولا فائدةَ لها في المآل؛ إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوالِ، فلما بين الله تعالى أنهم إليه يرجعون في آخر السورة قبلها بين أن الأمر ليس على ما حسبوه، بل (حسن التكليف)، لأنه يهذب الشكور ويعذب الكفور، فقال: { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ } غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم.
فصل في حكمة افتتاح هذه السُّوَرِ بحروف التَّهَجِّي
ولنذكرْ كلاماً كُلِّيّاً في افتتاح السور بالحروف.
اعلم أن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة، أو من يكون مشغول البال بشغل يشغله يقدم على الكلام المقصود سبباً غيره ليلتفت المخاطب (إليه) بسببه، ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود.
واعلم أن ذلك المتقدم على الكلام (المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفهوماً، كقول القائل: "زَيْدٌ، ويَا زَيْدُ" و "أَلاَ زَيْدُ".
وقد يكون المقدم صوتاً) غير مفهوم، كمن يُصَفِّرُ خلف إنسان ليلتفتَ وقد يكون الصوت بغير الفم، كتصفيق الإنسان بيده، ليقبل السامع عليه.
ثم إن توقع الغفلة (كلما كان أتم، والكلام المقصود كان أهم)، كان المقدم على الكلام المقصود أكثر ولهذا ينادى القريب "بالهمزة" فيقال: "أَزَيْدُ"، والبعيد بـ "يَا"، فيقال: "يَا زَيْدُ"، والغافل ينبه أولاً، فيقال: "أَلاَ يَا زَيْدُ".
إذا تقرر هذا فنقول: النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يَقْظَانَ الجَنانِ لكنه إنسان يَشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبِّهات.
وتلك الحروف إذا لم يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف المفهومة، لأن الحروف إذا كانت مفهومة المعنى، وذكرت لإقبال السامع على المتكلم لكي يسمع ما بعد ذلك فربما يظن السامع أنه كل المقصود و "لا" كلام بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه أما إذا سمع صوتاً بلا معنى فإنه يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود.
فإذن تقديم الحروف التي لا يفهم معناها على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة.
فإن قيلَ: فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟
فالجواب: قال ابن الخطيب: عقل البشر يعجز عن إدراك الأشياء الكُلِّيَّة على تفاصيلها، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول: كل سورة في أوائلها (حروف التهجي فإن في أوائلها) ذكر الكتاب أو التنزيل، أو القرآن كقوله تعالى:
{ الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [البقرة: 1-2] { الۤمۤ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّوم } [آل عمران: 1-3] { الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ } [الأعراف: 1-2] { يسۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [يس: 1-2] { الۤـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ } [السجدة: 1-2] { حـمۤ تَنزِيلُ } [غافر: 1-2] { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1-2] { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ص: 1-2] (إلا ثلاثَ سُوَرٍ) { كۤهيعۤصۤ } [مريم: 1] { الۤـمۤ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ } [العنكبوت: 1-2] { الۤـمۤ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } [الروم: 1-2].
والحكمة في افتتاح السور التي فيها الكتاب والتنزيل والكتاب بالحروف (و) هي أن القرآن عظيم، والإنزال له أثقل، كما قال تعالى:
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 5]، فكذلك قدم عليها تنبيه يُوجِبُ ثبات المخاطب لاستماعه.
لا يُقالُ: كل سورة قرآن، واستماعها استماع للقرآن، سواء كان فيها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن أو لم يكن فيجب أن يكون في أول كل سورة (منبه)، وأيضاً فقد وردت سور فيها ذكر الإنزال، والكتاب، وليس فيها حروف، كقوله تعالى:
{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف: 1] { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [النور: 1] { تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] لأنا نقول جواباً عن الأول: (لا ريب) في أن كل سورة من القرآن، لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب - مع أنهما من القرآن - فيها تنبيه على كل القرآن، فإن قوله تعالى: { طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ } [طه: 1-2] مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن، فيصير مثاله كتاب يَردُ من مَلِكٍ على مملوكه فيه شُغْلٌ ما، وكتاب آخر يرد منه عليه فيه: "إنَّا كَتبنا إليك كتاباً فيه أمرُنا فامتثلْه" فلا شك أن هذا الكتاب الآخر أكثر ثقلاً من الأول.
وعن الثاني: أن قوله: "الحمد لله، وتبارك الذي" تسبيحات مقصودة، وتسبيح الله لا يَغْفَلُ عنه العبد، فلا يحتاج إلى منبه، بخلاف الأوامر والنواهي، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمةِ مَنْ له التسبيح، و "سورة أنزلناها" قد بينا أنها بعض من القرآن فيها ذكر إنزالها، وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم وأثقل.
وأما قوله تعالى: "إنا أنزلناه" فهذا ليس وُرُوداً على مشغول القلب بشيء غيره، بدليل أنه ذكر الكتاب فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان منبهاً له فلم يُنَبَّهْ.
واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها، كقوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج: 1]، وقوله: { يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 1] { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } [التحريم: 1] لأنها أشياء هائلة عظيمة، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها. وأما هذه السور افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن، وذلك لأن ثِقَلَ القرآن هو ما فيه من التكاليف والمعاد، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال: { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا } يعني لا يتركون بمجرد ذلك، بل لا بدّ وأن يؤمنوا بأنواع التكاليف، ففيها المعنى الذي في السورة التي ذكر فيها القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي.
فإن قيل: فهذا المعنى ورد في سورة التوبة وهو قوله:
{ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 1] ولم يقدم عليه حروف التهجي!.
فالجواب: أن هذا ابتداء كلام، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة، فقال: "أَحَسِبَ"، وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام تاماً، والتنبيه (يكون) في أول الكلام، لا في أثنائه.
وأما { الۤـمۤ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا }.
قوله: "أن يتركوا" سد مسد مفعولي "حسب" عند الجمهور، ومسد أحدهما عند الأخفش.
قوله: "أن يقولوا" فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من "أن يتركوا"، أبدل مصدراً مؤولاً من مثله.
الثاني: أنها على إسقاط الخافض، وهو الباء واللام، أي: بأن يقولوا، أو لأنْ يَقُولُوا.
قال ابن عطية وأبو البقاء: إذا قدرت الباء كان حالاً.
قال ابن عطية: والمعنى في الباء واللام مختلف، وذلك أنه في الباء، كما تقول: تركت زيداً بحاله وهي في اللام بمعنى من أجل، أي: أحسبوا أنَّ إيمانهم علةٌ للترك انتهى.
وهذا تفسير معنى، ولو فسر الإعراب لقال: أحسبانهم الترك لأجل تلفظهم بالإيمان.
وقال الزمخشري: فإن قلت: فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان (في الآية)؟
قلت: هو في قوله: { أأَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }، وذلك أن تقديره: أحسبوا تركهم غير مَفْتُونِينَ لقولهم: آمنا، فالترك أولى مفعولي "حسب"، وقولهم آمنا هو الخبر، وأما غير مفتونين فتتمة الترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:

2024 - فَتَركْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ ...........................

ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول: (تركهم) غير مفتونين لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام.
فإن قلت: أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟
قلت: كما تقول: خُرُوجُه لمخافة الشر، وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك: خرجت (مخافة) الشر وضربته تأديباً تعليلين. وتقول أيضاً: حسبت خروجه لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً.
قال أبو حيان: وهذا كلام فيه اضطراب، ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة يعني أنه حال، لأنه سَبَك ذلك من قوله: { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } وهي جملة حالية، ثم ذكر "أن يتركوا" هنا من الترك الذي هو تصيير، وهذا لا يصح، لأن مفعول "صير" الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم، إذا يصير التقدير: أن يصيروا لقولهم وهم لا يفتنون وهذا كلام لا يصحّ.
وأما ما مثله به من البيت فإنه يصح أن يكون "جزر السباع" مفعولاً ثانياً لترك - بمعنى صير - بخلاف ما قدر في الآية.
وأما تقديره: تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فلا يصح؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم كان غير مفتونين حالاً، إذ لا ينعقد من تركهم بمعنى تصييرهم ولقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم بمعنى تصييرهم إلى مفعول ثان، لأن غير مفتونين عنده حال، لا مفعول ثان.
وأما قوله: فإن قلت: أن يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فضله (فهم)، وذلك أن قوله: أن يقولوا هو علة تركهم، فليس كذلك، لأنه لو كان علة لكان به متعلِّقاً كما يتعلق بالفِعْل، ولكنه علة الخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن، والخبر غير المبتدأ، ولو كان "لقولهم" علة للترك لكان من تمامه فكان يحتاج إلى خبر.
وأما قوله: كما تقول: خروجه لمخافة الشرِّ، فلِمَخَافَةِ ليس علةً للخروج، بل للخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن انتهى.
قال شهاب الدين: "ويجاب الشيخ بأن الزمخشري إنما نظر إلى جانب المعنى، وكلامه عليه صحيح.
وأما قوله: ليس علة للخروج ونحو ذلك، يعني في اللفظ، فأما في المعنى فهو علة قطعاً، ولولا خوف الخروج فات المقصود"
فصل
معنى الآية: أحسب الناس أن يتركوا بغير اختبار ولا ابتلاء أن يقولوا آمنا { وَهُم لاَ يُفْتَنُونَ } وهم لا يُبْتَلَوْنَ في أموالهم وأنفسهم، كلا لنختبرنهم، ليتبين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، قال الشعبي: نزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل منكم إقرار باللسان حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فقتل بعضهم ونجا بعضهم، فأنزل الله هاتين الآيتين.
وقال ابن عباس: نزلت في الذين آمنوا بمكة، وكانوا يعذبون سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر وغيرهم.
وقال مقاتل: نزلت في مهجع بن عبد الله، مولى عمر بن الخطاب، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مهْجَع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة" فجزع أبواه وامرأته، فأنزل الله فيه هذه الآية، وقيل: وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي، وذلك أن الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان، ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله هذه الآية.
ثم عزاهم فقال: { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني الأنبياء والمؤمنين، فمنهم من نُشِرَ بِمنْشَارٍ، ومنهم من قتل، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون، فكان يسومُهُمْ سوء العذاب.
قوله: { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } العامة على فتح الياء مضارع "عَلِمَ" المتعدية لواحد كذا قالوا وفيه إشكال تقدم وهو أنها إذا تعدت لمفعول كانت بمعنى عرف، وهذا المعنى لا يجوز إسناده إلى الباري تعالى، لأنه يستدعي سبق حصل ولأنه يتعلق بالذات فقط، دون ما عليه من الأحوال.
وقرأ عليٌّ وجَعْفَرُ بنُ مُحمّد بضم الياء مضارع "أعلم"، (ويحتمل أن يكون من علم بمعنى عرف، فلما جيء بهمزة النقل أكسبتها مفعولاً آخر، فحذف.
ثم هذا المفعول) يحتمل أن يكون هو الأول، أي ليعلمن اللَّهُ النَّاسَ الصَّادِقِينَ وليعلمهم الكاذبين أي بشهرة يعرف لها هؤلاء من هؤلاء، وأن يكون الثاني، أي ليعلمن هؤلاء منازلهم، وهؤلاء منازلهم في الآخرة، ويحتمل أن يكون من العلامة، وهي السِّيمَا، فلا يتعدى إلا لواحد أي ليجعلن لهم علامة يعرفون بها.
وقرأ الزُّهْرِيُّ الأولى كالمشهورة والثانية كالشاذة.
فصل
المعنى: فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم: آمَنَّا، وليعلمن الكاذبين.
قال المفسرون: ظاهر الآية يدل على تجدد العلم، والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار. ومعنى الآية: فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوحد معلومه.
وقال مقاتل: فليُرِيَنَّ الله. وقيل: ليميز الله، كقوله:
{ لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } [الأنفال: 37].
وقال ابن الخطيب: الية محمولة على ظاهرها، وذلك أن علم الله صِفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع، فَقَبْلَ التكليف كان الله تعالى يعلم أنَّ زَيْداً مثلاً سيُطِيعُ وعَمْراً سيعصي ثم وقت التكليف بالإتيان يعلم أنه أطاع، والآخر عصى، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال، وإنما المتغير المعلوم.
ومثال ذلك في الحِسِّيَّاتِ أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت في موضع، وقوبل بوجهها جهة (ولم تحرك) ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض يظهر فيها زيد في ثوب أبيض، وإذا عبر عليها "عمرو" في ثوب أصفر يظهر فيها كذلك. فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو أنها في صقالتها اختلفت، أو يخطر بباله أنها عن مكانها انتقلت؟ لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير إنما هو الخارجات.
فعلم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال، فإن المرآة ممكنة التغيير، وعلم الله غير ممكن التغيير، فقوله: "فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ" من هذا المثال يعني يعلم من علم الله أنه يأتي بالطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم. وليعلمن الكاذبين، يعني من قال: أنا مؤمن، وكان كذاباً فبفرض العبادات عليه يظهر منه ذلك ويعلم.
وفي قوله: { ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } بصيغة الفعل، وفي قوله: "الكَاذِبِينَ" فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يَدُلُّ عليه، كما يقال: فُلاَن شَرِبَ الخَمْرَ، وفلانٌ شَارِبٌ الخَمْرَ، وفلان نفذ أَمْرُهُ، وفلان نافذ أمره، لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ، ويفهم من اسم الفاعل ذلك إذا ثبت هذا فنقول: وقت نزول الآية كانت الحكاية في قومٍ قرباءِ العهد بالإسلام في أوائل إيجاب التكاليف، وعن قوم قديمين في الكفر، مستمرين فيه. فقال في حق المؤمنين: "الذين صدقوا" بصيغة الفعل أي وُجِدَ منهم الصدق وقال في حق الذين كفروا: "الكاذبين" بالصيغة المفهمة للثبات والدوام، فلهذا قال:
{ يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119] بلفظ اسم الفاعل، لأن في اليوم المذكور يكون الصدق قد رسخ في المؤمن وهو اليوم الآخر.