التفاسير

< >
عرض

وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ
٢٨
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٢٩
قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْمُفْسِدِينَ
٣٠
-العنكبوت

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: "وَلوطاً" إعرابه كإعراب إبراهيم { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ } قرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي وأبو بكر "أَئِنَّكُم" بالاستفهام، وقرأ الباقون بلا استفهام، واتفقوا على استفهام الثانية { لَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَة } وهو إتيان الرجال، { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا } يجوز أن تكون استثنافية جواباً لمن سأل عن ذلك وأن تكون حالية أي مبتدعين لها.
فإن قيل: قال إبراهيم لقومه: "اعْبدُو اللَّهَ"، وقال لوطٌ لقومه هاهنا: { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَة } ولم يأمرهم بالتوحيد، فما الحكمة؟
فالجواب: انه لما ذكر الله لوطاً عند ذكر إبراهيم كان لوط في زمن إبراهيم فلم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع الرسول لا بدّ أن يقول ذلك فحكاية لوط وغيرها هاهنا ذكرها الله على سبيل الاخْتِصَار فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة، ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد، وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال:
{ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } [هود: 61]؛ لأن ذلك قد أتى به إبراهيم، وسبقه فصار كالمختصِّ به، وأما المنعُ من علم قوم "لوط" فكان مختصاً "بلوط" فذكر كل واحد بما اختص به، وسبق به غَيْرَهُ.
فصل
دلت الآية على وجوب الحد في اللّواطة، لأنه سماها فاحشةً، وقد ثبت أن إتيان الفاحشة يوجب الحدّ، وأيضاً أن الله تعالى جعل عذاب من أتاها إمطارَ الحجارة عليهم عاجلاً وهو الرَّجْمُ. وتقدم الكلام على قوله: { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ }.
قوله: { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ }، قيل: كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين فترك الناس الممرّ بهم، وقيل: يقطعون سبيل النسل بإتيان الرجال، كقوله:
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ } [الأعراف: 81] و [النمل: 55]، { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } قال أبو العباس المَقَّرِيّ. ورد لفظ النادي في القرآن بإزاء معنيين:
الأول: النادي مجلس القوم المحدد فيه لهذه الآية.
والثاني: بمعنى الناصر، كقوله تعالى:
{ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } [العلق: 17]، أي ناصره يعني أبا جهل.
واعلم أن النادي (والنَّديّ) والمُنْتَدَى مجلس القوم ومُتَحَدَّثُهُمْ، روى أبو صالح مولى أُمِّ هانىء بنت أبي طالب قالت:
"سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } قلت: ما المنكر الذي كانوا يأتون؟ قال: كانوا يخذُفُونَ أهلَ الطرق، ويسخرون منهم" .
وروي أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصًى، فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفُوه فأيهم أصابه كان أولى به. وقيل: إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثةَ دراهم، ولهم قاضي بذلك، وقال القاسم بن محمد: كانوا يتضارطون في مجالسهم.
وقال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم. وعن عبد الله بن سلام: يَبْزُقُ بعضُهم على بَعْض. وعن مكحول قال: من أخلاق قوم لوط مضغ العِلْكِ، وتطريق الأصابع بالحِنَّاء، وحل الإزار، والصَّفيرُ، والخَذْفُ، واللُّوطِيَّةُ.
(قوله): { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ }، لما أنكر عليهم "لوط" ما يأتون به من القبائح إلا أَنْ قَالُوا له استهزاء { ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أن العذاب نازل بنا فعند ذلك قال لوط: { رَبِّ ٱنصُرْنِي عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْمُفْسِدِينَ } بتحقيق قولي في العذاب.
فإن قيلَ: قال قوم "إبراهيم" اقتلوه أو حرّقوه، وقال قوم لوط { ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ } وما هددوه (مع) أن "إبْرَاهِيمَ" كان أعظم من "لوط" فإن لوطاً كان من قومه.
فالجوابُ: أن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدد صفات نقصهم بقوله: "لا تُبْصِرُ ولا تَسْمَع ولا تَنْفَعُ، ولا تُغْنِي"، والقدح في الدين صعب، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم، وينبههم إلى ارتكاب التحريم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم وقالوا: إنك تقول: إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول: لا نعذب فإن كنت صادقاً فأتِنَا بالعذَابِ.؟
فإن قيل: إن الله قال في موضع آخر:
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ } [النمل: 56].
وقال هنا: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلا أَنْ قَالُوا ٱئْتِنَا } فكيف الجمع؟
فالجوابُ: أن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد مكرراً على النهي والوعيد فقالوا (أولاً) ائتنا (ثم) لما كثر منه ولم يسكت عنهم قالوا: "أخرجوا". ثم إنَّ لوطاً لما يَئِسَ منهم طلب النُّصْرَةَ من الله وذكرهم بما لا يحب الله فقال { رَبِّ ٱنصُرْنِي عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْمُفْسِدِينَ } (فإن الله لا يحب المفسدين) حتى يُنْجِزَ النَّصْرَ.
واعلم أن كُلَّ نبي من الأنبياء ما طلب هلاكٌ قَوْمه إلا إذا علم أن عدمَهُمْ خيرٌ من وجودهم، كما قال نوحٌ
{ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 27]، يعني: أن المصلحة إما أن تكون فيهم حالاً، أو بسببها مآلاً ولا مصلحة فيهما، فإنهم ضالون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون أولادهم من صغرهم بالامتناع عن الأَتباع وكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال، واشتغلوا بما لا يُرْجَى منهم ولد صالح يعبد الله فطلب المصلحة حالاً ومآلاً، فعدمهم صار خيراً، وطلب العذاب.