التفاسير

< >
عرض

يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ
٥٦
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
٥٧
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ
٥٨
ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٥٩
وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦٠
-العنكبوت

اللباب في علوم الكتاب

قوله (تعالى): { يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } لما ذكر حال المشركين على حدة، وحال أهل الكتاب على حدةٍ وجمعهما في الإنذار، وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم، وزاد فسادهم، وسعوا في إيذاء المؤمنين، ومنعهم من العبادة، قال مقاتل والكلبي: (نزلت في ضعفاء) مسلمي مكة يقول: إن كنتم في ضَيْقٍ بمكة من إظهار الإيمان فاخْرُجُوا منها إلى أرضٍ واسعة، آمنة، قال مجاهد: إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها، وقال سعيد بن جبير: إذا عُمِلَ في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة، وقال عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا (فإن) أرضي واسعة وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تُهَيَّأُ له العبادة، وقيل: نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة، فأنزل الله هذه الآية ولم يَعْذرهم بتركَ الخروج، وقال مطرف بن عبد الله: أرضي واسعة: رزقي لكم واسع فاخرجوا.
فصل
قوله: "يا عبادي" لا يدخل فيه الكافر لوجوه:
أحدها:
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر: 42] والكافر يحب سلطنة الشيطان فلا يدخل في قوله: "يا عبادي".
وثانيها: قوله تعالى:
{ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [الزمر: 53].
وثالثها: أن العباد مأخوذ من العِبَادة والكافر لا يعبد الله فلا يدخل في قوله: "عبادي" وإنما يختص بالمؤمنين الذين يعبدونه.
ورابعها: الإضافة بين الله والعبد بقول العبد إلهي، وقول الله عبدي.
فإن قيل: إذا كانت "عباده" لا تتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله: "الذين آمنوا" مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال: يا أيها المكلفون المؤمنون، يا أيها الرجلاء العقلاء تتمييزاً بين الكافر والجاهل؟
فالجواب: أن الوصف يذكر لا لتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال: الأنبياءُ المُكَرَّمُونَ والملائكة المطهَّرُونَ، مع أن كل نبي مكرمٌ، وكل ملك مطهرٌ، فإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرامَ والطهارة، ومثله قولنا: الله الله العظيم فهاهنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون.
فإن قيل: قوله: "يا عبادي" يفهم منه كونهم عابدين فما الفائدة بالأمر بالعبادة بقوله: "فَاعْبُدُونِ"؟
فالجواب: فيه فائدتان:
أحدهما: المداومة أي يا من عَبَدْتُمُونِي في الماضي فاعْبُدُوني في المستقبل.
والثانية: الإخلاص أي يا من يعبدني أَخْلِص العمل ولا تَقْبَلْ غيري.
فإن قيل: الفاء في قوله: "فَإِيَّايَ" يدل على أنه جواب لشرطٍ فما ذاك؟
فالجواب: قوله: { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال: إذا كان لا مانع من عبادتي فإياي فاعبدون فهو لترتيب المقتضَى على المقتضي كما يقال: هذا عالمٌ فأكرموه. فكذلك هاهنا لما أعلم نفسه بقوله: "فَإيَّايَ" وهو لنفسه مستحق العبادة، فقال: "فَاعْبُدُونِ". قال الزمخشري: "هذا جواب شرط مقدر، وجعل تقديم المفعول عوضاً من حذفه مع إفادته للاختصاص". وقد تقدم مُنَازَعُه أبي حيان له في نظيره.
قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } قرأه بالغيبة أبو بكر، وكذا في الروم في قوله:
{ { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم:11] وافقه أبو عمرو في الروم فقط والباقون بالخطاب فيها. وقرىء يَرْجعُون مبيناً للفاعل.
فصل
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان فخوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة أي كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فإن كل نفس ذائقة الموت فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم فيجزيكم بأعمالكم، وفيه وجه دقيق آخر وهو أن قوله: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } أي إذا كانت (معلقة) بغيرها فهو للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى:
{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ } [الدخان: 56] وإذا كان كذلك فمن يريد أن لا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره، وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت لقوله: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } و { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88] فإذن التعلق بالله (يريح من الموت) فقال تعالى: "فإياي فاعبدون" أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس، فإنها ذائقة الموت { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوعٌ إلي وليس بموت لقوله: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169]، وقال عليه (الصلاة و) السلام: "المؤمِنونَ لا يَمُوتونَ بل يُنْقَلُون من دار إلى دار" .
قوله (تعالى): { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } يجوز في "الذين" الوجهان المشهوران الابتداء، والاشتغال، وقوله: "لَنُبَوِّئَنَّهُمْ"، قرأ الأخوانِ بتاء مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النون، وياء مفتوحة بعد الواو من الثَّوَاءِ وهو الإقامة، يقال: ثَوَى الرجلُ إذا أقامَ، وأَثْوَيْتُهُ إذا أنزلته مَنْزِلاً يقيم فيه والباقون بباء موحدة مفتوحة بعد النون, وهمزة مفتوحة بعد الواو من المَبَاءَةِ وهي الإنزال أي لنبوئنهم من الجنة غرَفاً.
قوله: "غُرَفاً" على القراءة الأولى إما مفعول به على تضمين "أَثْوَى" أَنْزَلَ فيتعدى لاثنين؛ لأنَّ"ثوى" قاصرٌ، وأكسبتْهُ الهمزةُ التعدي لواحدٍ، وإما (على) تشبيه الظرف المختص بالمبهم كقوله:
{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] وإما على إسقاط الخافض اتساعاً أي في غُرَفٍ. وأما في القراءة الثانية فمفعول ثانٍ؛ لأن "بوأ" يتعدى لاثنين قال تعالى: { تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [آل عمران: 121]، ويتعدى باللام، قال تعالى: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ } [الحج: 26]. وقرىء "لنثوينّهم" بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة، و "تجري" صفة "لِغُرَفاً" { خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } وهذا في مقابلة قوله للكفار: { ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 55]
قوله: { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } يجوز فيه الجر والنصب والرفع كنظائر له تقدمت، والمعنى: الذين صبروا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يعتمدون. قوله: { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } جوز أبو البقاء في "كأين" وجهين:
أحدهما: أنها مبتدأ و "لا تحمل" صفتها و "الله يرزقها" خبره و "من دابة" تبيين.
والثاني: أن تكون في موع نصب بإضمار فعل يفسره "يرزقها" ويقدر بعد "كأين" يعني لأن لها صدر الكلام، وفي الثاني نظر؛ لأن من شرط المفسرِ العملَ، وهذا المفسر لا يعمل لأنهُ لو عمل لحل محل المفعول لكن لا يحل محله، لأن الخبر (متى كان) فعلاً رافعاً لضمير مفرد امتنع تقديمه على المبتدأ. وإذا أردت معرفة هذه القاعدة فعليك بسورة "هود" عند قوله:
{ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [هود: 8].
فصل
لما ذكر الله { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغدٍ، ويأتيها رزقها كل يوم.
واعلم أن (في) كأين (أربع لغات غير هذه كائن على وزن راعٍ، وكَأَى على وزن رَعَى "وكِيءَ" على وزن "رِيعَ" و "كَا" على وزن "رع" ولم يُقْرأ إلا كائن و "كا" قراءة ابن كثير.
فصل
"كأين" كلمة) مركبة من "كاف التشبيه" و "أن" التي تستعمل استعمال "مَن" و "ما" ركبتا، وجعل المركّب بمعنى "كم" ثم لم يكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن "كأيّ" مستعمل غير مركب كما يقول القائل: "رأيت رجلاً لا كَأَيِّ رَجُلٍ يكُونُ" (فقد حذف المضاف إليه، ويقال: رأيت رجلاً لا كأي رجل) وحينئذ لا يكون "كأي" مركباً. فإذا كان "كأي" ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز، (كما تكتب مَعْدِ يكَرِبَ وبَعْلَبَكَّ) موصولاً للفرق وكما تكتب ثَمَّةَ بالهاء تمييزاً بينها وبين (ثَمَّتَ).
فصل
روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون هاجروا إلى المدينة. فقالوا: كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال؟ فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ } وكم من دابة ذاتِ حاجة إلى غذاء و { لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } لضَعفها، كالقَمْلِ والبُرْغُوث والدود { ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } حيث ما كنتم "وهو السَّمِيعُ" لأقوالكم: ما نجد ما ننفق بالمدينة، "العَلِيمُ بما في قلوبكم". قال سفيان: ليس شيء مما خلق الله نَجْباً إلا الإنسان والفأرة والنَّمْلَة روى ابن عمر قال:
"دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطاً من حوائط الأنصار فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقط الرُّطَبَ بيده ويأكل، فقال: كُلْ يا ابن عمر، (قلت: لا أشتهيها يا رسول الله قال: لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاماً ولم أجده) فقلت: إنا لله الله المستعان قال يا ابن عمر: لو سألت ربي لأعطاني مثل ملْكِ كِسْرَى وقَيْصَرَ أضعافاً مضاعفة ولكني أجوعُ يوماً وأَشْبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عَمَّرْتَ وبَقِيتَ في أمر الناس يُخْبِّئُونَ رزق سنة ويضعف اليقين" فنزلت: { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } الآية، وقال عليه (الصلاة و) السلام "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوَكُّله لَرَزَقكُمْ كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِمَاصاً، وتروحُ بِطَاناً" .