التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
١٨٧
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

في كيفية النظمِ وجهانِ:
أحدهما: أنه - تعالى - لما حكى عنهم الطَعْنَ في نبوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وأجاب عن ذلك، بيَّن في هذه الآية التعجُّب من حالهم.
والمعنى: كيف يليق بكم الطعن في نبوَّته صلى الله عليه وسلم وكتبكم ناطقة بأنه يجب عليكم ذِكْرُ الدلائل الدالة على صِدقه ونبوته؟
ثانيهما: أنه لما أوجب عليه احتمال الأذَى من أهْل الكتاب - وكان من جُمْلَة أذاهم كتمانُ ما في التوراة والإنجيل من الدلائلِ الدالةِ على نبوَّتِه، وتحريفها - بيَّن أن هذا من تلك الجملةِ التي يجب فيها الصبر.
قوله: { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } هذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو، وابن كثيرٍ، وأبو بكر بالياء، جرياً على الاسم الظاهر - وهو كالغائب - وحَسَّن ذلك قوله - بعده -:"فَنَبَذُوهُ" والباقون بالتاء؛ خطاباً على الحكاية، تقديره: وقلنا لهم، وهذا كقوله:
{ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ } [البقرة: 83] بالتاء والياء كما تقدم تحريره.
قوله: { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } يحتمل وجهين:
أحدهما: واو الحال، والجملة بعدها نصب على الحال، أي: لتبينُنَّه غيرَ كاتمين. الثاني: أنها للعَطْف، والفعل بعدها مُقْسَم عليه - أيضاً - وإنما لم يُؤكَّدْ بالنون؛ لأنه منفيّ، كما تقول: واللَّهِ لا يقومُ زيدٌ - من غير نون - وقال أبو البقاء: "ولم يأتِ بها في "تَكْتُمُونَ" اكتفاءً بالتوكيد في الأول؛ "تَكْتُمُونَهُ" توكيد".
وظاهر عبارته أنه لو لم يكنْ بعد مؤكَّد بالنون لزم توكيده، وليس كذلك؛ لما تقدم. وقوله: لأنه توكيدٌ، يعني أن نفي الكتمان فُهمَ من قوله: { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } فجاء قوله: { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } توكيداً في المعنى.
واستحسن أبو حيَّان هذا الوجه - أعني: جَعْل الواو عاطفةً لا حاليةً - قال: "وهذا الوجه - عندي - أعْرَب وأفصح؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل "لا" حتى تصير الجملة اسمية في موضع الحال؛ إذ المضارع المنفي بـ "لا" لا تدخل عليه واوُ الحال".
وغيره يقول: إنه يمتنع إذا كان مضارعاً مُثْبَتاً، فيُفهم من هذا أن المضارعَ المنفيَّ بكُلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه.
وقرأ عبد الله: لَيُبَينونَه - من غير توكيد - قال ابنُ عطيَّة: "وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد قال سيبويه".
والمعروفُ - من مذهب البصريين - لزومهما معاً، والكوفيون يجيزون تعاقُبَهما في سعَة الكلامَ.
وأنشدوا: [الطويل]

1706- وَعَيْشِكِ - يا سَلْمَى - لأوقِنُ أنَّنِي لِمَا شِئْتِ مُسْتحْلٍ، وَلَوْ أنَّهُ الْقَتْلُ

وقال الآخرُ: [المتقارب]

1707- يَمِيناً لأبْغَضُ كُلَّ امْرِئٍ يُزَخْرِفُ قَوْلاً وَلاَ يَفْعَلُ

فأتى باللام وحدها. وقد تقدم تحقيقُ هذا.
وقرأ ابنُ عباس: ميثاق النبيين لتبيننه للناس، فالضمير في قوله: { فَنَبَذُوهُ } يعود على { ٱلنَّاسِ } المبيَّن لهم؛ لاستحالة عَوْدِهِ على النبيين، وكان قد تقدم في قوله تعالى:
{ { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [آل عمران: 81] أنه - في أحد الأوجه - على حذف مضاف، أي: أولاد النبيين، فلا بُعْدَ في تقديره هنا - أعني: قراءة ابن عباس -. والهاء في { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } قال سعيدُ بنُ جُبَيْر والسُّدِّيُّ تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يكونُ الضميرُ عائداً إلى معلوم غير مذكور.
وقال الحسنُ وقتادةُ: تعود على "الْكِتَابِ" أي: يبينون للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: البيانُ يضادُّ الكتمان، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهْياًَ عن الكتمان فما الفائدة في ذِكْرِ النَّهي عن الكتمان؟
فالجوابُ: أن المرادَ من البيان ذِكْرُ الآياتِ الدالةِ على نبوةِ محمد صلى الله عليه وسلم من التوراةِ والإنجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة، والشبهات المعطلة.
قال قتادةُ: هذا ميثاقٌ أخذه الله على أهلِ العِلْم، فمَنْ عَلِمَ شيئاً فلْيُعَلِّمْه، وإياكم وكتمانَ العِلْم، فإنه هَلَكَه. قال صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيامةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ" .
قوله: { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } طرحوه، وضيَّعوه، ولم يُراعوه، ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثَل للطَّرْح، ونقيضه: جعله نُصْبَ عينيه.
وقوله: { وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } معناه: أنهم أخفوا الحقَّ؛ ليتوسلوا بذلك إلى وجدان شيء من الدنيا، ثم قال: { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }.