التفاسير

< >
عرض

لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٨٨
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

هذا أيضاً من جملة أذاهم؛ لأنهم يفرحون بما أتَوْا به من أنواع الخُبْث والتلبيس على ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِين ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِأنَّهُم أهلُ البِرِّ والصدقة والتقوَى، ولا شك أن الإنسانَ يتأذَّى بمشاهدة مثل هذه الأحْوالِ، فأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمصابرة عليها.
قوله: و{ لاَ تَحْسَبَنَّ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمر "يَحْسَبَنَّ" و "فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ" - بالياء فيهما، ورفع ياء "تَحْسَبَنَّهُم" وقرأ الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ، وفتح الباء فيهما معاً، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول، وتاء الخطاب في الثاني، وفتح الباء فيهما معاً، وقُرِئَ شاذاً بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معاً، وقرئ فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما، وفتح الباء فيهما أيضاً فهذه خَمْس قراءاتٍ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيها خمسةُ أوجهٍ، وذلك: لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَل الفعل الأول مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، أو إلى الموصولِ، فإنْ جعلناه مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره - ففي المسألة وجهانِ:
أحدهما: أنَّ "الَّذِينَ" مفعول أوّل، والثاني محذوفٌ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه، وهو "بِمَفَازَةٍ" والتقدير: لا يحسبن الرسول - أو حاسب - الذين يفرحون بمفازة، فأسند الفعل الثاني لضميرِ "الَّذِينَ" ومفعولاه الضمير المنصوب، و "بِمَفاَزَةٍ".
الثاني: أن "الَّذِينَ" مفعول أول - أيضاً - ومفعوله الثاني هو "بِمَفَازَةٍ" الملفوظ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوف؛ لدلالة مفعول الأول عليه، والتقدير: لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك، والعمل كما تقدم، وهذا بعيد جِداً، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول بكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ، والفاء - على هذين الوجهين - عاطفة؛ والسببية فيها ظاهرة.
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ:
أولها: أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه، اختصاراً؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما، تقديره: ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين.
كقول الآخر: [الطويل]

1708- بأيِّ كِتَابٍ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وَتحْسَبُ

أي: وتحسب حبهم عاراً، فحذفت مفعولي الفعل الثاني؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ.
ثانيها: أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا.
قال أبو علي "تَحْسَبَنَّ" لم يقع على شيء و "الَّذيِنَ" رفع به، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْواً، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة، نحو قوله: [الطويل]

1709- وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلاَئِصا

المذاكي: الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، الواحد: مُذَك مثل المُخْلف من الإبل وفي المثل: جريُ المذكيات غِلاب. والمُسْنفات: اسم مفعول، يقال: سنفت البعير أسنفه، سنفاً، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه، يتعدى ولا يتعدى وكانت العربُ تركب الإبلَ، وتجنب الخيل، تقول: الحرب لا تبقى مودة وقال الخليلُ: العربُ تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيدٌ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيدٌ.
يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن مُلْغَاة، لا مفعول لها.
ثالثها: أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفاً، والثاني هو نفس "بِمَفَازَةٍ" ويكون "فَلاَ يَحْسَبَنهُمْ" توكيداً للفعل الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة -: "على أن الفعل لـِ { ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ } والمفعول الأول محذوف، على معنى: لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى: لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين، و "فلا يحسبنهم" تأكيد".
قال أبو حيّان: "وتقدم لنا الرَّدُّ على الزمخشريّ في تقديره: لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى:
{ { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } [آل عمران: 178] وأن هذا التقدير لا يصح".
قال شهابُ الدِّينِ: قد تقدَّم ذلك والجواب عنه، لكن ليس هو في قوله:
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } [آل عمران: 178] بل في قوله: { ولا يَحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله } من قراءة من قرأ بياء الغيبة، فهناك ردَّ عليه بما قال، وقد أجيب عنه والحمد لله، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد.
ويجوز أن يقالَ - في تقرير هذا الوجه الثالث -: أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن "بِمَفَازَةٍ" مفعول ثانٍ للفعل الأول، حذفت من الفعل الثاني، و "هُمْ" في "فلا يحسبنهم" مفعول أول للفعل الثاني، وهو محذوفٌ من الأولِ.
وإذا عرفت ذلك فالفعلُ الثاني - على هذه الأوجه الثلاثة - تأكيدٌ للأول.
وقال مكِّيٌّ: إن الفعل الثاني بدلٌ من الأولِ.
وفي تسمية مثل هذا بدلاً نظر لا يخفى، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر، فهو يرجع إلى معنى التأكيد. وكذلك قال بعضهم: والثاني مُعاد على طريق البدل، مشوباً بمعنى التأكيدِ.
وعلى هذين القولين - أعني كونه تأكيداً، أو بدلاً - فالفاء زائدة، ليست عاطفة ولا جواباً.
قوله: { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } أصله: تحسبونَنَّهم، بنونين - الأولى نون الرفع، والثانية للتوكيد - وتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة. وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل، وهو خاص بباب الظن، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال. لو قلت: "أكرمتُني"، أي: "أكرمت أنا نفسي" لم يجز.
وأما قراءة الكوفيين فالفعلانِ فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من يصلح للخطاب - والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ، على قولنا إن الفعلَ الأولَ مسندٌ لضميرٍ غائبٍ، والفعل الثاني تأكيدٌ للأولِ، أو بدلٌ منه، والفاء زائدة، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير، على قولنا: إن الفعلين مسندان للموصول؛ لأن الفاعل فيهما واحد، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر: [الكامل]

1710- لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِساً أهْلَكْتُهُ فَإذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعِي

وقول الآخر: [الكامل]

1711- لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ

وقول الآخر: [الكامل]

1712- حَتَّى تَرَكْتُ العَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ فَيَقُلْنَ: لا تَبْعَدْ، وَقُلْتُ لَهُ: ابْعَدِ

إلا أنَّ زيادةَ الفاءِ ليس رأي الجمهورِ، إنما قال به الأخفش.
وأما قراءة نافع وابن عامرٍ - بالغيبة في الأولِ، والخطاب في الثاني - فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به، إلا أنه ممتنع - هنا - أن يكون الفعل الثاني تأكيداً للأول، أو بدلاً منه؛ لاختلاف فاعليهما، فتكون الفاء - هنا - عاطفةً ليس إلا، وقال أبو علي في الحُجة -: إن الفاءَ زائدة، والثاني بدلٌ من الأولِ، قال: "وليس هذا موضع العطف لأن الكلامَ لم يتم، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يُذْكَر بَعْدُ".
وفيه نظرٌ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.
وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيينَ.
وأما قراءةُ الغيبةِ وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندانِ إلى ضميرٍ غائبٍ، أي: لا يحسبن الرسولُ، أو حاسبٌ.
والكلامُ في المفعولينِ للفعلينِ، كالكلام في القراءة التي قبلها، والثاني من الفعلين تأكيدٌ، أو بدلٌ، والفاءُ زائدةٌ -على هاتينِ القراءتينِ - لاتحادِ الفاعلِ.
وقرأ النَّخعِيُّ، ومروان بن الحكمِ "بما آتوا" ممدوداً، أي: أعْطُوا، وقرأ علي بن أبي طالبٍ "أوتوا" مبنياً للمفعول.
فصل
قال ابنُ عبّاسٍ: قوله: { يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } هم اليهودُ، حرَّفوا التوراةَ، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يوصَفُوا بالديانةِ والفَضْلِ.
وقيل: سأل رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم اليهودَ عن شيء من التوراة، فأخبروه بخلافه، وفرحوا بذلك التلبيسِ وطلبوا أن يثنى عليهم بذلك.
وقيل: فرحوا بكتمان النصوص الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأحبوا أن يُحْمَدُوا بأنهم متبعون دين إبراهيمَ.
وقيل: هُم المنافقونَ، فرحوا بِنفَاقِهِمْ للمسلمينَ، وأحبُّوا أن يَحْمَدَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الإيمانِ.
وقيل: هم بعض المنافقينَ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغَزْو، وفرحوا بقعودهم، واعتذروا، وطمعوا أن يُثْنَى عليهم، كما يُثْنَى على المجاهدين.
وقيل المراد كتم اليهود الميثاق المأخوذ عليهم بالاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفَرِحوا بذلك الكتمان، وزعموا أنهم أبناءُ اللهِ وأحباؤهُ.
فصل
قال الفرّاءُ: "يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا" أي: بما فعلوا، كقوله:
{ { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [مريم: 27] أي: فَعَلْتِ، وقوله: { { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [النساء: 16]. قال الزمخشريُّ: "أتى وجاء تُسْتَعْملان بمعنى فَعَل قال تعالى: { { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [مريم: 61] ويدل عليه قراءة أبَي يفرحون بما فَعَلوا".
قوله: { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } قد تقدم معناه في كيفية النظم { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } أي: بمنجاة من العذاب، من قولهم: فاز فلان - إذا نجا - أي: ليسوا بفائزين.
وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوَّز الرجل - إذا مات -.
وقال الفرّاءُ: أي: ببعيد من العذاب؛ لأن الفوز معناه التباعُد من المكروه، ثم حقَّق ذلك بقوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
قوله: { مِّنَ ٱلْعَذَابِ } فيه وجهانِ:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف، على أنه صفة لـِ "مَفَازَةٍ" أي: بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا "مَفَازَةٍ" مكاناً، أي بموضع فَوْز.
قال أبو البقاء: "لأن المفازةَ مكان، والمكانُ لا يعملُ".
يعني فلا يكون متعلقاً بها، بل بمحذوف، على أنه صفة لها، إلا أن جعله صفة مشكل؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها { مِّنَ ٱلْعَذَابِ } اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئاً خاصاً حتى يُصبح المعنى تقديره: بمفازة منجيةٍ من العذابِ، وفيه الإشكالُ المعروفُ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف - في مثله - إلا كَوْناً مطلقاً.
الثاني: أن يتعلق بنفس "مفازة" على أنها مصدر بمعنى الفَوْز، تقول: فزت منه أي: نَجَوْت، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها، وليست الدالة على التوحيد.
كقوله: [الطويل]

1713- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ

فأعمل "رهبة" في "عقابك" وهو مفعول صريح، فهذا أولى.
قال أبو البقاء: "ويكون التقدير: فلا تحسبنهم فائزين، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ".
فإن أراد تفسير المعنى فذاك، وإن أراد أنه بهذا التقدير - يصح التعلُّق، فلا حاجة إليه؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظاً ومعنىً.