التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٢٨
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

العامة على قراءة "لا يَتَّخِذْ" نَهْياً، وقرأ الضَّبِّيُّ "لا يَتَّخِذُ" برفع الذال - نفياً - بمعنى لا ينبغي، أو هو خبر بمعنى النهي نحو { { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } [البقرة: 233] و { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ } [البقرة: 282] - فيمن رفع الراء.
قال أبو البقاء وغيره: "وأجاز الكسائيُّ فيه [رفع الراء] على الخبر، والمعنى: لا ينبغي".
وهذا موافق لما قاله الفرَّاء، فإنه قال: "ولو رَفَع على الخبر - كقراءة مَنْ قرأ: { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } جاز".
قال أبو إسحاق: ويكون المعنى - على الرفع - أنه مَنْ كان مؤمناً، فلا ينبغي أن يتخذ الكافرَ ولياً؛ [لأن ولي الكافر راضٍ بكُفْره، فهو كافر].
كأنهما لم يَطَّلِعَا على قراءة الضبي، أو لم تثبت عندهما.
و "يتخذ" يجوز أن يكون متعدياً لواحد، فيكون "أوْلِيَاءَ" حالاً، وأن يكون متعدياً لاثنين، وأولياء هو الثاني.
قوله: { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان:
أظهرهما: أن "مِن" لابتداء الغايةِ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ.
قال علي بن عيسى: "أي: لا تجعلوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دون مكان المؤمنين".
وقد تقدم تحقيقُ هذا، عند قوله تعالى:
{ { وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } في البقرة [الآية 23].
والثاني - أجاز أبو البقاء - أن يكون في موضع نصب، صفة لـِ "أوْلِيَاءَ" فعلى هذا يتعلق بمحذوف.
قوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } أدغم الكسائيُّ اللام في الذال هنا، وفي مواضع أخَر تقدم التنبيه عليها في البقرة.
قوله: { مِنَ ٱللَّهِ } الظاهر أنه في محل نصب على الحال من "شَيءٍ"؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له.
"فِي شَيءٍ" هو خبر "لَيْسَ"؛ لأن به تستقل فائدةُ الإسنادِ، والتقدير: فليس في شيء كائن من الله، ولا بد من حذف مضافٍ، أي: فليس من ولاية الله.
وقيل: من دين الله، ونظَّر بعضُهم الآيةَ الكريمةَ ببيت النابغةِ: [الوافر]

1392- إذَا حَاوَلْتَ مِنْ أسَدٍ فُجُوراً فَإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِني

قال ابو حيّان: "والتنظير ليس بجيِّدٍ؛ لأن "منك" و "مني" خبر "لَيْسَ" وتستقل به الفائدةُ، وفي الآية الخبر قوله: "فِي شَيءٍ" فليس البيتُ كالآيةِ".
وقد نحا ابن عطية هذا المنحى المذكورَ عن بعضهم، فقال: فليس من الله في شيء مَرْضِيِّ على الكمالِ والصوابِ، وهذا كما
"قال النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ، تقديره: فليس من التقرب إلى الله والثواب، وقوله: "فِي شَيءٍ" هو في موضع نصبٍ على الحالِ من الضمير الذي في قوله: { فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ }.
قال أبو حيّان: "وهو كلام مضطرب؛ لأن تقديره: "فليس من التقرُّب إلى الله" يقتضي أن لا يكون "مِنَ اللهِ" خبراً لـِ "لَيْسَ"؛ إذْ لا يستقل، وقوله: "فِي شَيءٍ" هو في موضع نصبٍ على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً، فيبقى "ليس" - على قوله - ليس لها خبر، وذلك لا يجوز، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله صلى الله عليه وسلم:
"من غشنا فليس منا" ليس بجيِّد؛ لما بينَّا من الفرق بين بيت النابغة، وبين الآية الكريمةِ".
قال شهاب الدين: "وقد يجاب عن قوله: إن "مِنَ اللهِ" لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ، تقديره: فليس من أولياء اللهِ؛ لأن اتخاذَ الكفار أولياء ينافي ولاية الله - تعالى -، وكذا قول ابن عطية: فليس من التقرُّب، أي: من أهل التقرب، وحينئذٍ يكون التنظير بين الآية، والحديث، وبيت النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما ذكر، ونظير تقديرِ المضافِ هنا - قوله:
{ { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [إبراهيم: 36]، أي: من أشياعي وأتباعي، وكذا قوله: { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ } [البقرة: 249] أي: من أشياعي وقول العرب: أنت مني فرسخين، أي: من أشياعي ما سرنا فرسخين، ويجوز أن يكون "مِنَ اللهِ" هو خبر "ليس" و "فِي شيءٍ" يكون حالاً منالضمير في "لَيْسَ" - كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً، وغيره إيماءً، وتقدم الاعتراض عليهما والجواب".
قوله: { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } هذا استثناء مُفَرَّغ من المفعول من أجله، والعامل فيه "لا يَتَّخِذْ" أي: لا يتخذ المؤمنُ الكافرَ وليًّا لشيء من الأشياء إلا للتقيةِ ظاهراً، أي: يكون مواليه في الظاهر، ومعاديه في الباطن، وعلى هذا فقوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } وجوابه معترضٌ بين العلةِ ومعلولِها وفي قوله: { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } التفات من غيبةٍ إلى خطابٍ، ولو جرى على سنن الكلامِ الأول لجاء الكلام غيبة، وذكروا للالتفات - هنا - معنى حسناً، وذلك أن موالاةَ الكفارِ لما كانت مستقبحةً لم يواجه الله - تعالى - عباده بخطاب النهي، بل جاء به في كلام أسْندَ الفعل المنهي عنه لغيب، ولما كانت المجاملة - في الظاهر - والمحاسنة جائزة لعذرٍ - وهو اتقاء شرهم - حَسُنَ الإقبال إليهم، وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك.
قوله: { تُقَاةً } في نصبها ثلاثة أوجهٍ، وذلك مَبْنِيٌّ على تفسير "تُقَاةً" ما هي؟
أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدرِ، والتقدير: تتقوا منهم اتِّقَاءً، فـ "تُقَاة" واقعة موقع الاتقاء، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها، والأصل: أن تتقوا اتقاءً - نحو: تقتدر اقتداراً - ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائدِ، كقوله:
{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17] والأصل إنباتاً.
ومثله قول الشاعر: [الوافر]

1393- .......................... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمَائَةَ الرِّتَاعَا

أي: اعطائك، ومن ذلك - أيضاً - قوله: [الوافر]

1394- .......................... وَلَيْس بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا

وقول الآخر: [الوافر]

1395- وَلاَحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ رُكَامٌ يَحْفِرُ الأرْضَ احْتِفَارَا

وهذا عكس الآية؛ إذ جاء المصدرُ مُزَاداً فيه، والفعل الناصب له مُجَرَّد من تلك الزوائدِ، ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى: { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل: 8].
وقول الآخر: [الرجز أو السريع]

1396- وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ

والأصل: تَطَوِّيَّا، والأصل في "تُقَاةً" وقية مصدر على فُعَل من الوقاية. وقد تقدم تفسير هذه المادة، ثم أبدلت الواوُ تاءً مثل تخمة وتكأة وتجاه، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، فصار اللفظ "تقاة" كما ترى بوزن "فعلة" ومجيء المصدر على "فُعَل" و "فُعَلَة" قليل، نحو: التخمة، والتؤدة، والتهمة والتكأة، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير المصدر، والكثير مجيء المصادرِ جارية على أفعالها.
قيل: وحسَّن مجيءَ هذا المصدر ثلاثياً كونُ فعله قد حُذِفت زوائده في كثيرٍ من كلامهم، نحو: تقى يتقى.
ومنه قوله: [الطويل]

1397- .......................... تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو

وقد تقدم تحقيق ذلك أول البقرة.
الثاني: أنها منصوبة على المفعول به، وذلك على أن "تَتَّقُوا" بمعنى تخافوا، وتكون "تُقَاةً" مصدراً واقعاً موقعَ المفعول به، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ، فإنه قال: "إلا أن تَخَافُوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه".
وقُرِئَ "تَقِيَّةً" وقيل - للمتقى -: تُقَاة، وتقية، كقولهم: ضَرْب الأمير - لمضروبه فصار تقديرُ الكلامِ: إلا أن تخافوا منهم أمْراً مُتَّقًى.
الثالث: أنها منصوبةٌ على الحال، وصاحب الحال فاعل "تَتَّقُوا" وعلى هذا تكون حالاً مؤكدةً لأن معناه مفهوم من عاملها، كقوله:
{ { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [مريم: 33]، وقوله: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [البقرة: 60] وهو - على هذا - جمع فاعل، - وإن لم يُلْفَظْ بـ "فاعل" من هذه المادة - فيكون فاعلاً وفُعَلَة، نحو: رَامٍ ورُمَاة، وغَازٍ وغُزَاة، لأن "فُعَلَة" يطَّرد جمعاً لـِ "فاعل" الوصف، المعتل اللام.
وقيل: بل لعله جمع لـ "فَعِيل" أجاز ذلك كلَّه أبو علي الفارسي.
قال شهاب الدينِ: "جمع فعيل على "فُعَلَة" لا يجوز، فإن "فَعِيلاً" الوصف المعتل اللام يجمع على "أفعلاء" نحو: غَنِيّ وأغنياء، وتَقِيّ وأتقياء، وصَفِيّ وأصفياء.
فإن قيل: قد جاء "فعيل" الوصف مجموعاً على "فُعَلَة" قالوا: كَمِيّ وكُمَاة.
فالجواب: أنه من النادر، بحيثُ لا يُقاس عليه".
وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ، وأبو رجاء وقتادةُ وأبو حَيْوةَ ويعقوبُ وسهلٌ وعاصمٌ - في رواية المعتل عينه - تتقوا منهم تقيَّة - بوزن مَطِيَّة - وهي مصدر - أيضاً - بمعنى تقاة، يقال: اتَّقَى يتقي اتقاءً وتَقْوًى وتُقَاةً وتَقِيَّة وتُقًى، فيجيء مصدر "افْتَعَل" من هذه المادة على الافتعال، وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزانِ، ويقال - أيضاً -: تقيت أتقي - ثلاثياً - تَقِيَّةً وتقوًى وتُقَاةً وتُقًى، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق.
وأمال الأخوانِ "تُقَاةً" هنا؛ لأن ألفَها منقلبةٌ عن ياءٍ، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في منع الإمالة؛ لأن السبب غيرُ ظاهر، ألا ترى أن سبب الياء الإمالة المقدرة - بخلاف غالب، وطالب، وقادم فإن حرف الاستعلاء - هنا - مؤثِّر؛ لكن سبب الإمالة ظاهر، وهو الكسرة، وعلى هذا يقال: كيف يؤثر مع السبب الظاهر، ولم يؤثر مع المقدَّر وكان العكس أولى.
والجوابُ: أن الكسرة سببٌ منفصلٌ عن الحرف المُمَال - ليس موجوداً فيه - بخلاف الألف المنقلبة عن ياء، فإنها - نفسها - مقتضية للإمالة، فلذلك لم يقاوِمها حرفُ الاستعلاء.
وأمال الكسائي - وحده -
{ { حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] فخرج حمزة عن أصله، وكأن الفرق أن "تُقَاةً" - هذه - رُسِمَتْ بالياء، فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه، ولذلك قال بعضهم: "تَقِيَّة" - بوزن مطيّة - كما تقدم؛ لظاهر الرسم، بخلاف "تُقَاتِهِ".
قال شهاب الدين: [وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا؛ لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذٌّ؛ لأجل حرف الاستعلاء، وأن سيبويه حكى عن قوم أنَّهم يُميلُون شَيْئاً لا تجوز إمالَتَُه، نحو: رَأيْتُ عِرْقَى بالإمالة، وليس هذا من ذلك؛ لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في كسْرِهِ ظاهرٌ.
وقوله:...] "مِنْهُمْ" متعلق بـ "تَتَّقُوا" أو بمحذوف على أنه حال من "تُقَاةً"؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون صفةً لها، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً، هذا إذا لم نجعل "تُقَاةً" حالاً، فأما إذا جعلناها حالاً تعيَّن أن يَتَعلَّق "مِنْهُمْ" بالفعل قبله، ولا يجوز أن يكون حالاً من "تُقَاةً" لفساد المعنى؛ لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين.
فصل في كيفية النظم
في كيفية النظمِ وجهان:
أحدهما: أنه - تعالى - لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم اللهِ - تعالى - ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس، فقال: { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
والثاني: أنه لما بَيَّن أنه - تعالى - مالك الدنيا والآخرة، بيَّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه - دون أعدائه -.
فصل
في سبب النزول وجوه:
أحدها: قال ابن عبّاسٍ: كان الحجاج بن عمرو وابنُ أبي الحُقَيْقِ وقيسُ بنُ زيد [قد بطنوا] بنفر من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن عبد المنذر وعبد الله بن جبير وسعد ابن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين: اجتنبوا هؤلاءِ اليهودَ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلاّ مباطَنَتَهُمْ، فنزلت هذه الآية.
وثانيها: قال مقاتلٌ: نزلت في حاطب بن أبي بلتعةَ، وغيره؛ حيث كانوا يُظْهرون المودةَ لكفار مكة فنهاهم عنها.
ثالثها: قال الكلبيُّ - عن أبي صالح عن ابن عبّاس -: نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيِّ وأصحابه - كانوا يتولَّون اليهودَ والمشركين، ويأتونهم بالأخبار، يرجون لهم الظفر والنصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
ورابعها: أنها نزلت في عُبَادةَ بن الصامتِ - وكان له حلفاء من اليهود - في يوم الأحزاب قال: يا رسول الله، معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فنزلت هذه الآية في تحريم موالاة الكافرين.
وقد نزلت آيات أخَرُ في هذا المعنى، منها قوله تعالى:
{ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } [آل عمران: 118]، وقوله: { { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [المجادلة: 22] وقوله: { { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ } [المائدة: 51] وقوله: { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [الممتحنة: 1]، وقوله: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [التوبة: 71].
فصل
موالاة الكافر تنقسم ثلاثة أقسامٍ.
الأول: أن يَرْضَى بكفره، ويُصَوِّبَه، ويواليَه لأجْلِه، فهذا كافر؛ لأنه راضٍ بالكفر ومُصَوِّبٌ له.
الثاني: المعاشرةُ الجميلةُ بحَسَب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه.
الثالث: الموالاة، بمعنى الركون إليهم، والمعونة، والنُّصْرة، إما بسبب القرابة، وإما بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينَه باطل - فهذا منهيٌّ عنه، ولا يوجب الكفر؛ لأنه - بهذا المعنى - قد يجره إلى استحسان طريقِه، والرِّضَى بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام، ولذلك هدد الله بهذه الآية - فقال: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ }.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء - بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين - فأما إذا تولَّوْهم، وتولَّوُا المؤمنين معهم، فليس ذلك بمنهيٍّ عنه، وأيضاً فقوله: { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ } فيه زيادة مَزِيَّةٍ؛ لأن الرجلَ قد يوالي غيره، ولا يتخذه موالياً له، فالنهيُّ عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل موالاته؟
فالجوابُ: أن هذين الاحتمالين - وإن قاما في الآية - إلا أن سائر الآيات الدالةِ على أنه لا يجوز موالاتُهم دلت على سقوطِ هذينِ الاحتمالينِ.
فصل
معنى قوله: { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: من غير المؤمنين، كقوله:
{ { وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [البقرة: 23]، أي: من غير الله؛ لأن لفظة "دون" تختص بالمكان، تقول: زيد جلس دون عمرو، أي: في مكان أسفلَ منه، ثم إن مَن كان مُبَايِناً لغيره في المكان، فهو مغاير له، فجعل لفظ "دون" مستعملاً في معنى "غير"، ثم قال: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ } يقع عليه اسم الولاية أي: فليس من ولاية الله في شيءٍ، يعني أنه مُنْسَلِخ من ولاية الله - تعالى - رأساً، وهذا أمر معقول؛ فإن موالاةَ الوليّ وموالاةَ عدوِّه ضدان.
قال الشاعر: [الطويل]

1398- تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّنِي صَدِيقُكَ، لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ

وكتب الشَّعبيُّ إلى صديق له كتاباً، من جملته: وَمَنْ وَالَى عَدُوَّكَ فَقَدْ عَادَاكَ، وَمَنْ عَادَى عَدُوَّكَ فَقَدْ وَالاَكَ. وقد تقدم القول بأن المعنى فليس من دون الله في شيء.
ثم قال: { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة، قال الحسنُ:
"أخذ مُسَيْلمةَ الكذابُ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: تشهد أن محمَّداً رسولُ الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حَنِيفَةَ، ومحمد رسول قُرَيْش - فتركه، ودعا الآخر قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم نعم نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، ثلاثاً - فقدمه، فقتله، فبلغ ذلك رسولَ الله، فقال: أما هذا المقتولُ فمضى على يقينه وصدقه، فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه" .
ونظير هذه الآية قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } [النحل: 106].
فصل
التَّقِيَّة لها أحكامٌ:
منها: أنها تجوز إذا كان الرجلُ في قومٍ كفارٍ، ويخاف منهم على نفسه، وماله، فيداريهم باللسان، بأن لا يُظْهِرَ العداوةَ باللسان، بل يجوز له أن يُظْهِر الكلامَ الموهمَ للمحبة والموالاة، بشرط أن يضمر خلافَه، وأن يُعَرِّضَ في كُلِّ ما يقول؛ فإن التقية تأثيرُها في الظاهر، لا في أحوال القلوبِ، ولو أفصح بالإيمان - حيث يجوز له التقية - كان أفضل؛ لقصةِ مسيلمةَ.
ومنها: أنها إنما تجوز فيما يتعلق بدفع الضرر عن نفسه، أما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتلِ، والزنا، وغصب الأموالِ، والشهادة بالزور، وقذف المحصنات، وإطلاع الكفارِ على عورات المسلمين، فلا تجوز ألبتة.
ومنها: أنها تحل مع الكفار الغالبين، وقال بعض العلماء: إنها تحل مع المسلمين - إذا شاكلت حالُهم حال المشركين؛ محاماةً على النفس، وهل هي جائزة لصَوْن المال؟ يُحْتَمل أن يُحْكَم فيها بالجواز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِم كَحُرْمَةِ دَمهِ" وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" ولأن الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بِيعَ بالغبن سقط فرضُ الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم؛ دفعاً لذلك القدر من نقصان المال، فهاهنا أوْلَى.
فصل
قال معاذُ بن جبل ومجاهدٌ: كانت التَّقِيَّةُ في أول الإسلام - قبل استحكام الدين، وقوة المسلمين - أما اليوم فلا؛ لأن الله أعَزَّ الإسلامَ، فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم، وروي عن الحسنِ أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامةِ.
قال ابن الخطيبِ: "وهذا القول أوْلَى؛ لأن دَفْعَ الضررِ عن النفس واجبٌ بقدر الإمكان".
وقال يحيى البِكَالِيّ: قلت لسعيد بن جُبَيرٍ - في أيام الحجاجِ -: إن الحسنَ كان يقول: لكم التقية باللسان، والقلب مطمئن، فقال سعيد بن جبيرٍ: ليس في الإسلام تَقِيَّة، إنما التَّقِيَّة لأهل الحرب.
قوله: { وَيُحَذِّرْكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ }، "نَفْسَهُ" مفعول ثان لـ "يُحَذِّرُ"؛ لأنه في الأصل مُتَعَدِّ لواحد، فازداد بالتضعيف آخر، وقدَّر بعضهم حذفَ مضاف - أي: عقاب نفسه - وصرح بعضهم بعدم الاحتياجِ إليه، كذا نقله أبو البقاء عنهم.
قال الزّجّاج: "أي: ويحذركم الله إياه، ثم استغنَوْا عن ذلك بذا، وصار المستعملَ، قال تعالى:
{ { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [المائدة: 116] فمعناه: تعلم ما عندي، وما في حقيقتي، ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك".
قال شهابُ الدينِ: "وليس بشيءٍ؛ إذْ لا بد من تقدير هذا المضافِ، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه - في نحو قولك: حذرتك نفسَ زيد - أنه لا بد من شيءٍ تحذر منه - كالعقاب والسطوة؛ لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّرُ الحذرُ منها نفسها، إنما يتصور من أفعالِها وما يَصْدُرُ عنها".
قال أبو مسلم: "والمعنى { وَيُحَذِّرْكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } أن تعصوه، فتستحقوا عقابه".
وَعَبَّر - هنا - بالنفس عن الذات؛ جَرْياً على عادةِ العرب، كما قال الأعشى: [الكامل]

1399- يَوْماً بِأجْوَدَ نَائِلاً مِنْهُ إذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَجَهَّمْتَ سُؤَّالَهَا

قال بعضهم: "الهاء في "نَفْسَهُ" تعود على المصدر المفهوم من قوله: "لاَ يَتَّخِذ"، أي: ويحذركم الله نفس الاتخاذ، والنفس: عبارة عن وجود الشيء وذاته".
قال أبو العباس المُقْرِئُ: ورد لفظ "النفس" في القرآن على أربعة أضربٍ:
الأول: بمعنى العلم بالشيء، والشهادة، كقوله: { وَيُحَذِّرْكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ }، يعني علمه فيكم، وشهادته عليكم.
الثاني: بمعنى البدن، قال تعالى:
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [آل عمران: 185].
الثالث: بمعنى الهَوَى، كقوله:
{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } [يوسف: 53] يعني الهَوَى.
الرابع: بمعنى الروحِ، قال تعالى:
{ { أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ } [الأنعام: 93]، أي: أرواحكم.
فصل
المعنى: يخوفكم الله عقوبته على موالاةِ الكُفَّار، وارتكاب المناهي ومخالفة المأمور.
والفائدة في ذكر النفس: أنه لو قال: ويحذركم الله، فهذا لا يُفِيد أن الذي أرِيدَ التحذيرُ منه هو عقاب يصدر من الله - تعالى - أو من غيره، فلما ذَكَر النفسَ زالت هذه الأشياءُ، ومعلوم أن العقابَ الصادرَ عنه، يكون أعظمَ أنواع العقابِ؛ لكونه قادراً على ما لا نهايةَ له، وأنه لا قُدْرَةَ لأحد على دَفْعِهِ وَمَنْعِه مما أراد، ثم قال: { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ }، أي: يحذركم اللهُ عقابه عند مصيركم إليه.