التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٧٨
-آل عمران

اللباب في علوم الكتاب

هذه الآية تدل على أن التي قبلها نزلت في اليهود.
وقوله: يَلْوُونَ" صفة لـ "فريقاً" فهي في محل نصبٍ، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى؛ لأنه اسم جمع - كالقوم والرهط -.
قال أبو البقاء: "ولو أفرد على اللفظ لجاز" وفيه نظرٌ؛ إذ لا يجوز: القوم جاءني، والعامة على { يَلْوُونَ } بفتح الياء، وسكون اللام، وبعدها واو مضمومة، ثم أخْرَى ساكنة مضارع لوى أي: فتل.
وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نِصاح وأبو حاتم - عن نافع - "يُلَوُّون" بضم الياء، وفتح اللام، وتشديد الأولى - من "لَوَّى" مضعَّفاً، والتضعيف فيه للتكثير والمبالغة، لا للتعدية؛ إذ لو كان لها لتعدى لآخرَ؛ لأنه مُتَعَدٍّ لواحد قبل ذلك، ونسبها الزمخشريُّ لأهل المدينةِ، وهو كما قال، فإن هؤلاء رؤساء قُرَّاء المدينة.
وقرأ حُمَيْد "يَلُون" - بفتح الياء، وضم اللام، بعدها واو مفردة ساكنة - ونسبها الزمخشريُّ لمجاهدٍ وابنِ كثيرٍ، ووجَّهَهَا هو بأن الأصل { يَلْوُونَ } - كقراءة العامة - ثم أبدِلَت الواو المضمومة همزة، وهو بدلٌ قياسيٌّ - كأجوه وأقِّتَتْ. ثم خُفِّفَت الهمزةُ بإلقاء حركتها على الساكن قبلها وهو اللام - وحُذِفَت الهمزةُ، فبقي وزن "يَلُون" يَفُون - بحذْف اللام والعين - وذلك لأن اللام - وهي الياء - حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأن الأصل "يلويون" كيضربون، فاستُثْقِلَت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان - الياء وواو الضمير - فحُذِفت الياء لالتقائهما، ثم حُذِفت الواو التي هي عين الكلمة.
و { أَلْسِنَتَهُمْ } جمع لسانٍ، وهذا على لغة من ذكَّره، وأما على لغة من يُؤنثه - فيقول: هذه لسانٌ - فإنه يجمع على "ألْسُن" - نحو ذِراع وأذرُع وكراع وأكرِع.
وقال الفرّاء: لم نسمعْه من العرب إلا مذكَّراً. ويُعَبَّر باللسان عن الكلام؛ لأنه ينشأ منه، وفيه - والمراد به ذلك - التذكير والتأنيث -، والليّ: الفتل، يقال: لَويْت الثوب، ولويت عنقه - أي فتلته - والليُّ: المطل، لواه دَيْنَه، يلويه لَيًّا، وليَّاناً: مطله. والمصدر: اللَّيّ واللّيان.
قال الشاعرُ: [الرجز]

1526- قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانا مَخَافَةَ إلافْلاسِ وَاللَّيانا

والأصل لوْيٌ، ولَوْيَان، فأعِلَّ بما تقدم في "مَيِّت" وبابه ثم يُطْلَق اللَّيُّ على الإراغة والمراوغة في الحجج والخصومة؛ تشبيهاً للمعاني بالأجرام. وفي الحديث: "لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ" .
وقال بعضهم: اللَّيّ عبارة عن عَطْف الشيء، وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال: لَوَيْت يده والتوى الشيءُ - إذا انحرف - والتوى فلان عليَّ إذا غيَّر أخلاقه عن الاستواء إلى ضده. ولوى لسانه عن كذا - إذا غيره - ولوى فلانٌ فلاناً عن رأيه - إذا أماله عنه - و { بِٱلْكِتَابِ } متعلق بـ { يَلْوُونَ }، وجعله أبو البقاء حالاً من الألسنة، قال: وتقديره: ملتبسة بالكتاب، أو ناطقة بالكتاب.
والضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } يجوز أن يعود على ما تقدَّم مما دل عليه ذِكْر اللَّيّ والتحريف، أي: لتحسبوا المحرف من التوراة. ويجوز أن يعود على مضاف محذوفٍ، دل عليه المعنى، والأصل: يلوون ألسنتهم بشِبْهِ الكتاب؛ لتحسبوا شِبْهَ الكتاب الذي حرفوه من الكتاب، ويكون كقوله:
{ { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ } [النور: 40] ثم قال: { { يَغْشَاهُ } [النور: 40] والأصل أو كذي ظلمات, فالضمير في { { يَغْشَاهُ } [النور: 40] يعود على "ذِي" المحذوفة. و "من الكتاب" هو المفعول الثاني للحُسْبان. وقُرئ "ليحسبوه" - بياء الغيبة - والمراد بهم المسلمون - أيضاً - كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى: ليحسب المسلمون أن المحرَّف من التوراة.
قال ابن الخطيبِ: "لَيُّ اللسان شبيه بالتشدُّقِ والتنطُّع والتكلُّف - وذلك مذموم - فعبَّر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلَيِّ اللسان؛ ذمًّا لهم، ولم يُعَبِّر عنها بالقراءة. والعرب تفرِّق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد، فيقولون - في المدح -: خطيب مِصْقَع، وفي الذم: مِكْثَارٌ، ثَرْثَارٌ فالمراد بقوله: { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ } أي: بقراءة ذلك الكتاب الباطل".
فصل
قال القفَّالُ: معنى قوله: { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } أن يعمدوا إلى اللفظة، فيحرفونها عن حركات الإعراب تحريفاً يتغيَّر به المعنى، وهذا كثيرٌ في لسان العرب، فلا يبعد مثله في العبرانية، فكانوا يفعلون ذلك في الآياتِ الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة.
وروي عن ابنِ عباسٍ قال: إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، كتبوا كتاباً شوَّشوا فيه نعتَ محمد صلى الله عليه وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثم قالوا: هذا من عند الله.
فصل
قال جمهور المفسّرين: هذا النفر هم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر، وشعبة بن عمرو الشاعر. { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } يعطفونها بالتحريف والتغيير، وهو ما غيّروا من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم، وغير ذلك. { لِتَحْسَبُوهُ } أي: لتظنوا ما حرفوا { مِنَ ٱلْكِتَابِ } الذي أنزله الله - عز وجل - { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنَّهم الكاذبون.
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيلَ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه.
فإن قيل: كيف يمكن إدخالُ التحريف في التوراة، مع شُهْرتها العظيمة؟
فالجوابُ: لعله صدر هذا العمل عن نفر قليلٍ، يجوز تواطؤهم على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوامِّ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً.
قال ابن الخطيب: "والأصوب - عندي - في الآية أن الآياتِ الدَّالَّةِ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظرِ والتأمُّل، والقوم كانوا يُورِدون عليها الأسئلة المشوشة، والاعتراضات المظلمة، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهةً على السَّامِعِينَ، واليهود كانو يقولون: مراد اللهِ من هذه الآياتِ ما ذكرناهُ - لا ما ذكرتم - فكان هذا هو المراد بالتحريف وَلَيِّ الألسنةِ، كما أن المُحِقَّ - في زمننا - إذا استدل بآيةٍ فالمُبْطِل يورد عليه الأسئلةَ والشبهاتِ، ويقول: لَيْسَ مُرَادُ اللهِ - تعالى - ما ذكرت، بل ما ذكرناه، فكذا هنا، والله أعلمُ".
فإن قيل: ما الفرق بين قوله: { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } وبين قوله: { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }؟
فالجوابُ: أن المغايرة حاصلة؛ لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله تعالى؛ فإن الحكم الشرعيَّ قد ثبت تارةً بالكتاب، وتارةً بالسنَّةِ، وتارة بالإجماع، وتارة بالقياس، والكل من عند الله تعالى - فقوله: { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } هذا نفيٌ خاصٌّ، ثم عطف النفي العام فقال: { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } فلا يكون تكراراً.
وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة، ويكون المراد من قولهم: { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ } أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم السلام مثل شعيب وأرميا؛ وذلك لأن القومَ في نسبة ذلك التحريفِ إلى الله تعالى كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبُلْه الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرَّف إلى أنه من عنده، وإن من وجدوا قوماً عُقَلاَء أذكياء زعموا أنه موجودٌ في كتب سائر الأنبياءِ، الذين جاءوا بعد موسى عليه السَّلاَمُ.