التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
٢٣
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
٢٤
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
٢٥
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ
٢٦
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ
٢٧
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٨
قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
٢٩
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ
٣٠
-السجدة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ } لما قرر الأصول الثلاثة عاد إلى الأمثل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله: { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ } [السجدة: 3] وقال: إنَّكَ لَسْتَ بدْعاً مِنَ الرُّسُلِ بل كان قبلك رسلٌ مثلُك، وذكر موسى لقربه (من) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم، وإنما لم يختر عيسى - عليه (الصلاة و) السلام (للذكر) والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوّته، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنُبُوَّة عيسى عليه السلام فتمسك بالمجمع عليه.
قوله: { فَلاَ تَكُنْ فِي مَرْيَةٍ } قرأ الحسن بالضم وهي لُغَةٌ، وقوله: "مِنْ لِقَائِهِ" في الهاء أقوال:
أحدها: أنها عائدة على "مُوسَى" والمصدر مضاف لمفعوله أي من لقائِكَ مُوسى ليلةَ الإسراء. وامْتَحَنَ المبردُ الزجاجَ في هذه المسألة فأجاب بما ذكر، قال ابن عباس وغيره: المعنى فلا تكن في شَكٍّ من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه، روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسري بي مُوسىَ رَجُلاً آدَمَ طُوالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلاً مَرْبُوعاً إلى الحُمرةِ والبَيَاض سَبْط الرأس، ورأيتَ مالِكاً خَازِنَ النَّارِ والدَّجَّال في آيات أَراهَنَي اللَّهُ إيَّاهُ" .
والثاني: أن المضير يعود على "الكتاب" وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي من لقاء الكتاب لموسى أو للمفعول أي من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاءَ يصح نسبته إلى كل منهما، لأن من لقيك فقد لقيته.
قال السدي المعنى فلا تكن في مِرْيَةٍ من لقائه أي تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول.
الثالث: أي يعود على الكتاب على حذف مضاف أي من لقاء مثل كتاب موسى.
الرابع: أنه عائد على ملك الموت لتقدم ذكره.
الخامس: عوده على الرجوع المفهوم من قوله:
{ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [السجدة: 11] أي لأنك في مرية من لقاء الرجوع.
السادس: أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مِمَّا ابتلي به موسى من البلاء والامْتِحَان، قاله الحسن. أي لا بدّ ان يلقى ما لقي موسى من قومه فاختار موسى عليه السلام لحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذِهِ من قومه إلا الذين لم يؤمنوا، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لا آمن به آذاه كفرعون (وغيره) ومن آمن به من بني إسرائيل أيضاً (آذاه) بالمخالفة وطلب أشياء مثل رؤية الله جهرة وكقولهم:
{ فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ } [المائدة: 24]. وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب، ثم بين (أن له هداية غير عادية عن المنفعة كما أنه لم تحل هداية موسى حيث جعل الله كتاب موسى هدى) وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صحابة يهدون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُم اهْتَدَيْتُمْ" ، ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر فقال: { لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }.
فصل
"لَمَّا صَبَرُوا" قرأ الأخوان بكسر اللام وتخفيف الميم، على أنها لام الجر و ("ما") مصدرية، والجار متعلق بالجعل أي جعلناهم كذلك لصبرهم ولإيقانهم، والباقون بفتحها وتشديد الميم. وهي "لمَّا" التي تقتضي جواباً وتقدم فيها قولا سيبويه والفارسي، والمعنى حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصْرَ.
قوله: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } هذا يصلح أن يكون جواباً لسؤال وهو أنه تعالى لما قال: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ } فكان لقائل أن يقول: كيف يَهْدُونَ وهم اختلفوا وصاروا فِرَقاً والحق واحد؟ فقال (الله) يبين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة.
قوله: { أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ } يتبين لهم { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } لما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد وقال: { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ } وقوله { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } أي مساكن المُهْلَكِينَ (دلالة على حالتهم) وأنتم تمشون فيها وتبصرونها { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } آيات الله وعِظَاته واعتبر السمع لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم فقال: "أفلا يسمعون" (يعني) ليس لكم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه.
قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ } قرىء الجُرْز - بسكون الراء - وتقدم أول الكهف. وهي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها، قال ابن عباس: هي أرض باليمن، وقال مجاهد: هي أرض بأنين. والجرز هو القطع فكأنها المقطوع عنها الماء والنبات. لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضرر والنفع بيد الله ثم قال: { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ } من العشب والتبن "وأَنْفُسُهُمْ" من الحبوب والأقوات، وقدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه:
الأول: أن الزرع أول ما ينبت للدوابِّ ولا يصلح للإنسان.
الثاني: أن الزرع غذاء للدواب لا بدّ منه وأما غذاء الإنسان فقد يصلح للحيوان فكان الحيوان يأكل الزرع ثم الإنسان يأكل من الحيوان.
قوله: "أَفَلاَ يُبْصِرُونَ" قرأ العامة بالغيبة، (وابن مسعود) بالخطاب التفاتاً.
وقال تبصرون لأن الأمر (يرى) بخلاف حال الماضي فإنها كانت مسموعة. ثم لما بين الرسالة والتوحيد بيّن الحشر فقال: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } قيل: أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم بين العابد قال قتادة: قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للكفار: إنّ لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم الله بيننا وبينكم فقالوا استهزاء: { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ } أي القضاء والحكم. وقال الكلبي: يعني فتح مكة، وقال السدي: يوم بدر لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون لهم إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح.
فصل
"يوم الفتح" منصوب "بلاَ يَنْفَعُ" و "لا" غير مانعة من ذلك. وقد تقدم فيها مذاهب والمعنى يوم الفتح يوم القيامة لا ينفع الذين كفروا إيمانُهُمْ. ومن حمل الفتح على فتح مكة والقتل يوم بدر قال معناه لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم من العذاب وقُتِلُوا { وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } أي لا يُمْهَلُونَ بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا، ثم لما بين أن الدلائل لم تنفعهم قال: "فَأَعْرَضْ عَنْهُمْ" قال ابن عباس: نسختها آية القتال.
قوله: { وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } العامة على كسر الظاء من "مُنْتَظِرٍ" اسم فاعل، والمفعولُ من "انْتَظَر" ومن "مُنْتَظِرُونَ" محذوف أي انتظر ما يَحُلُّ بهم إنهم منتظرون (على زَعْمِهمْ ما يحل بك. وقرا اليَمَانِيُّ: "مُنْتَظَرُونَ") اسم مفعول.
قيل: المعنى انتظر موعدي لك بالنصر إنهم منتظرون بك حوادث الزمان.
وقيل: انتظر عذابنا فيهم إنهم منتظرون ذلك وعلى هذا فلا فرق بين الانتظار. وقيل: انتظر عذابهم بنفسك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاءاً كما قالوا:
{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [الأعراف: 70].
فصل
روى أبو هريرة قال:
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة { الۤـمۤ. تَنْزِيل } و { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ }" .
وعن جابر قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ تَبَارَكَ. والۤـمۤ. تنزيل، ويقول: هما يَفْضُلاَن عَلَى كُلِّ سُورةٍ في القرآن سبعينَ سَنَةً، ومن قرأهما كُتِبَ له سَبْعُونَ حَسَنَةً، ومُحِيَ عنه سَبْعُونَ سَيِّئَةً، ورُفِعَ له سَبْعُونَ دَرَجَةً" .
وروى الثعلبي عن ابن عباس عن أُبَيٍّ بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَرَأَ سورة الۤـمۤ. تَنْزِيلُ أَعْطِيَ من الأجْرِ كَمَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ القَدْرِ" . والله أعلم.