التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ
٤٠
قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ
٤١
فَٱلْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ
٤٢
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
٤٣
وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ
٤٤
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
٤٥
-سبأ

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ } وقد تقدم أنه يقرأ بالنون والياء في الأنعام.
قوله: { أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } إياكم منصوب بخبر "كان" قدم لأجل الفواصل والاهتمام. واستدل بل على جواز تقديم خبر "كان" عليها إذا كان خبرها جملة فإن فيه خلافاً جوزه ابنُ السراج، ومنعه غيره. وكذلك اختلفوا في توسطه إذا كان جملة. قال ابن السِّرِّاج: القياس جوازه لكن لم يسمع.
قال شهاب الدين: قد تقدم في قوله:
{ { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } } [الأعراف:137] ونحوه أنه يجوز أن يكون من تقديم الخبر وأن لا يكون. ووجه الدلالة هنا أن تقديم المعمول مُؤْذِنٌ بتقديم العامل. وتقدم تحقيق هذا في "هُودٍ" في قوله تعالى: { { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } } [هود:8] (و) وضع هذه القاعدة.
فصل
لما بين أن حال النبي - عليه الصلاة والسلام - كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه حال من تقدّم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم بين ما يكون عاقبة حالهم فقال: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني المكذبين بك { ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلآئِكَةِ } الذين يدعون أنهم يعبدونهم فإن غاية ما ترتقي إليه منزلتهم أنهم يقولون: نحن نعبد الملائكة والكواكب قال قتادة: هذا استفهام تقرير كقوله تعالى لعيسى
{ { ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ } } [المائدة:116] فيقول: { أَهَـٰؤُلاَءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } فتبرأ منهم الملائكة فيقولون: "سُبْحَانَكَ" تنزيهاً لك { أنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ } أي نحن نتولاك ولا نتولاهم يعني كونك ولي بالعبودية أولى وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا فقالوا: { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ } أي الشياطين فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ونحن (كنا) كالقِبْلة لهم.
فإن قيل: فهم كانوا يعبدون الملائكة فما وجه قولهم يعبدون الجن؟ قيل: أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فهم كانوا يُطيعون الشياطين في عبادة الملائكة فقوله: "يعبدون" أي يطيعون الجن والعبادة هي الطاعة { أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } أي مصدِّقون الشياطين.
فإن قيل: جميعهم كانوا متابعين للشياطين فما وجه قوله: { أكْثَرُهُمْ بِهِمْ } فإنه يدل على أنَّ بَعْضَهم لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهُمْ؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الملائكة أحتزوا عن (دَعْوى) الإحاطة بهم فقالوا: أكثرهم لأنَّ الَّذِين رأوهم واطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجنَّ ويؤمنون بهم ولعلَ في الوجود من لم يُطْلع الله الملائكة عليه من الكفار.
الثاني: هو أن العبادة علم ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا بل يعبدون الجن لاطِّلاعهم على أعمالهم وقالوا أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطّلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا يطلع على من فيه إلا الله كما قال:
{ { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } } [هود:5].
ثم بين أن ما كانوا يعبدون لا ينفعهم فقال: { فَٱلْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } وهذا الخطاب يحتم أن يكون مع الملائكة لسبق قوله: { أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } وعلى هذا يكون تنكيلاً للكافرين حيث بيّن لهم أن معبودهم لا ينفعهم ولا يضر. ويصحح هذا قوله تعالى: "لا يملكون الشّفاعة إلا لمن ارتضى".
ولقوله بَعْدَه: { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا } ولو كان المخاطب هم الكفار لقال: "فَذُوفُوا" ويحتمل أن يكون داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضِ } أي الملائكة والجن وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيرهم، ويحتمل أن يكون الخطاب والمخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم وعلى هذا فقوله { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } إنما ذكره تأكيداً لبيان حالهم في الظلم.
فإن قيل: قوله "نفعاً" مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضرّ مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك؟
فالجواب: لما كان العبادة نفع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبَّار، ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.
فإن قيل: قَوْلُه هَهُنَا: "الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا" صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته؟
فالجواب: قيل: لأنهم هناك كانوا مُلْتَبِسِين بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله:
{ { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } } [السجدة:20] فوصف لهم ما لا بسوه وهنا لم يُلاَبِسُوهُ بعد لأنه عقيب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون.
قوله: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا } يعنون محمداً - صلى الله عليه وسلم - { إلاَّ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ } فعارضوا البرهانَ بالتقليد { وَقَالُوا مَا هَذَا إلاَّ إفْكٌ مُفْتَرًى } يعنون القرآن وقيل: القول بالوحدانية "إفْكٌ مُفْتَرًى" كقوله تعالى في حقهم:
{ { أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ } } [الصافات: 86] وكقولهم للرسول: { { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } } [الأحقاف:22] وعلى هذا فيكون قوله: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بدلاً وقالوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ؛ هذا إنكار للتوحيد وكان مختصاً بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمُعْجِزة فكان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ } على العموم.
قوله: { وَمَا آتَيْنَاهُمْ } يعني المشركين { مِنْ كُتُبٍ يَدرسونَها } العامة على التخفيف مضارع "دَرَسَ" مخففاً أي حفظ وأبو حيوة يُدَرِّسُونَها بفتح الدال مشددة وكسر الراء والأصل "يَدْتَرِسُونَها" من الادّارس على الافتعال فأدغم، وعنه أيضاً بضم الياء وفتح الدال وتشديد الراء نم التَّدْريس. والمعنى يقرأونها وقوله: { وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ } أي إلى هؤلاء المحاضرين لك لم ترسل إليهم أي لم يأت العرب قبْلك نبي ولا نزل عليهم كتاب ولا أتاهم نذير يشافههم بالنّذارة غيرك، فلا تعارض بينه وبين قوله:
{ { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } } [فاطر:24] إذ المراد هناك آثار النذير. ولا شك أن هذا كان موجوداً يذهب النبي وتبقى شريعته، ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كَذَّبوا مثلَ عادٍ وثمودٍ وغيرهم.
قوله: "وَمَا بَلَغُوا" الظاهر أن الضمير في "بلغوا" وفي "آتيناهم" للَّذِين من قبلهم ليناسق قوله: "فَكَذَّبُوا رُسُلِي" يعني أنهم لم يبلغوا في شكر النعمة وجزاء المِنّة "مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ" من النعم والإحسان إليهم. وقيل: بل ضمير الرفع لقريش والنصب "للذين من قبلهم" وهو قول ابن عباس على معنى أنهم كانوا أكثر أموالاً، وقيل: بالعكس على معنى إنا أعطيْنَا قريشاً من الآيات والبراهين ما لم نُعْطِ من قبلهم. واختلف في المشعار فقيل: هو بمعنى العُشْر بني مِفْعَال من لفظ العُشْر كالمِرْبَاع، ولا ثالث لهما من ألفاظ العدد لا يقال: مِسْدَاس ولا مِخْمَاس، وقيل: هو عُشْرُ العُشْرِ، إلا أن ابن عطية أنكره وقال: ليس بشيء، وقال المَاوَرْدِيُّ: المعشار هنا عُشْر العَشِيرِ، والعَشِيرُ هو عُشْرُ العُشْرِ.
فيكون جزءاً من ألف قال: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل.
فصل
المعنى أن هؤلاء المشركين ما بلغوا مِعْشَارَ ما أعطينا الأمم الخالية من النِّعْمَة والقوة وطول العُمْرِ فكذبوا رسلي فكيف كان نكير؟ أي إنكاري وتغييري عليهم يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية وقي: المراد وكذَّب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم أي الذين من قبلهم ما بلغوا مِعْشَار ما آتينا قوم محمد من البَيَان والبُرْهان وذلك لأن كتاب محمد - عليه السلام - أكملُ من سائر الكتب وأوضح ومحمد - عليه السلام - أفضل من جميع الرسل وأفصح وبرهانه أوفى، وبيانه أشْفَى، ثم إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبما آتاهم من الرسل أنكر عليهم فكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح الرُّسل وأوضح السُّبُل ويؤيد هذا قوله تعالى: { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً { وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ } فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى.
قوله: "فكذبوا" فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على { كَذَّبَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ }.
والثاني: أنه معطوف على "وما بلغوا". وأوْضَحَهُما الزمخشري فقال: "فإن قلت: ما معنى "فكذبوا رسلي" وهو مستغنى عنه بقوله: { وَكَذَّبَ الَّذِين مِنْ قَبْلِهِم }؟ قلتُ: لما كان معنى قوله: { وَكَذَّبَ الِّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل سبباً عنه ونظيره أن يقول القائل: أقْدَمَ فلانٌ على الكفر فكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يعطف على قوله: "وَمَا بَلَغُوا" كقولك: "مَا بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشَارَ فَضْلِ عمرو فَيُضِّلَ عليه" و"نَكِيرِ" مضاف لفاعله أي إنْكاري وتقدم حذف يائه وإثْبَاتُها.