قوله: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وٱلأَرْضِ } قد تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر. ونعم الله على قسمين عاجلة وآجلة والعاجلة وجود وبقاء والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء.
قوله: "فَاطِرِ" إن جعلت إضافة محضة كان نعتاً "لله" وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً. وهو قليل، من حيث إنه مشتق، وهذه قراءة العامة. والزُّهْريّ والضحاك: "فَطَرَ" فعلاً ماضياً وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها صلة لموصول محذوف أي الَّذِي فطر. كذا قدره أبو (حيان) وأبو الفضل، ولا يليق بمذهب البصريين لأن حذف الموصول الاسمي لا يجوز، وقد تقدم هذا الخلاف متسوفًى في البقرة.
الثاني: أنه حال على إضمار "قد". قاله أبو الفضل أيضاً.
الثالث: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ فطر. وقد حكى الزمخشري قراءة تؤيد ما ذهب إليه الرّازي فقال: "وقرىء الذي فَطَر وَجَعَل"، فصرح بالموصول.
فصل
معنى فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. قاله ابن عباس. وقيل: فاطر السموات والأرض أي شاقّهما لِنُزُول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض. ويدل عليه قوله تعالى: { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } فإن في ذلك اليوم تكن الملائكةُ رسلاً.
قوله: "جاعل" العامة أيضاً على جره نعتاً أو بدلاً، والحسن بالرفع والإضافة.
وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنَّه لم ينون ونصب الملائكة، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:
1451-........................ وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
وابنُ يعمُر وخُلَيْدُ بن نَشِيطٍ "جَعَلَ" فعلاً ماضياً بعد قراءة فاطر بالجر وهذه كقراءة: { { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ } [الأنعام:96]. والحَسَنُ وحُمَيْد رُسْلاً بسكون السين وهي لغة تميم. وجاعل يجوز أن يكون بمعنى مصير أوبمعنى خالق فعلى الأولى يجري الخلاف هل نصب الثاني باسم الفاعل أو بإضمار فعل هذا إن اعتقد أن جاعلاً غير ماض أما إذا كان ماضياً تعين أن ينتصب بإضمار فعل.
وتقدم تحقيق ذلك في الأنعام وعلى الثاني ينتصب على الحال، و"مَثْنَى وثُلاَثَ ورُبَاعَ" صفة لأجنحة و "أُولي" صفة لرُسُلاً.
وتقدم تحقيق الكلام في مَثْنَى وأخْتَيْهَا في سورة النساء. قال أبو حيان وقيل: أولي أجنحة معترض و "مثنى" حال والعامل فعل محذوف يدل عليه رسلاً أي يُرْسَلُون مَثْنَى وثُلاَث ورُبَاع. وهذا لا يسمى اعتراضاً لوجهين:
أحدهما: أن "أولي" صفة لرسلاً والصفة لا يقال فيها معترضة.
والثاني: أنها ليست حالاً من "رُسُلاً" (بل) من محذوف فكيف يكون ما قبله معترضاً؟ ولو جعله حالاً من الضمير في "رُسُلاً" لأنه مشتق لسهل ذلك بعض شيء ويكون الاعتراض بالصفة مجازاً من حيث إنه فاصل في الصورة.
قوله: "يَزِيدُ" مستأنف. و"مَا يَشَاءُ" هو المفعول الثاني للزّيادة. والأول لم يقصد فهو محذوف اقتصاراً لأن قوله في الخلق يُغْنِي عَنْهُ.
فصل
قول قتادة ومقاتل: أولي أجنحة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثةُ أجنحة، وبعضهم له أجنحة يزيد فيها ما يشاء وهو قوله: { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } قال (عبد الله) بنُ مسعود في قوله عزّ وجلّ: { { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } [النجم:18]. قال: رأي جبريل في صورته له ستّمائةِ جَنَاح. "قال ابن شهاب في قوله: { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } قال: حسن الصوت". وعن قتادة: هو المَلاَحَةُ في العينين. وقيل: هو العقل والتمييز { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
قوله: { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر وقال: { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ } إن رحم الله فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعثَ له عليها. وفي الآية دليل على سبق الرحمة الغضب من وجوه:
أحدها: التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر.
وثانيها: أنه أنّث الكناية فقال: { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } ويجوز من حيث العربية أن يقال: "لَهُ" عَوْداً إلى "ما" ولكن قال الله تعالى ذلك ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة فيه واصلة إلى من رَحِمَتْهُ وقال عند الإمساك: { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } بالتذكير ولم يقل "لها" فلم يصرح بأنه لا مرسل للرحمة بل ذكره بلفظ يحتمل أن يكون الذي يرسل هو غير الرحمة، فإن قوله (تعالى): "وَمَا يُمْسِكْ" عامٌّ من غير بيانٍ وتخصيص.
وثالثها: قوله من بعْدِه أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال: { لاَ مُرْسِلَ لَهُ إلاَّ اللَّهُ } وعند الإمساك قال: { لاَ مُمْسِكَ لَهَا } ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رَحِمَهُ الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله قد يرحمه الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان.
قوله: "مِنْ رَحْمَةٍ" تبين أو حال من اسم الشرط ولا يكون صفة لـ "ما" لأن اسم الشرط لا يوصف قال الزمخشري: وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قيل: أيّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضية؟ قال أبو حيان: والعموم مفهوم من اسم الشرط و"من رحمة" بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجْتُزِىءَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات. و"من" في موضع الحال. انتهى.
قوله "وَمَا يُمْسِكْ" يجوز أن يكون على عمومه أيْ أيّ شيء أمْسَكَه من رحمة أو غيرها. فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه عائد على "ما يمسك". ويجوز أن يكون قد حذف المبيَّن من الثاني لدلالة الأول عليه تقديره وما يمسك من رحمة فعلى هذا التذكير في قوله: "له" على لفظ "ما" وفي قوله أولاً: فلا ممسك لها التأنيث فيه حمل على معنى "ما" لأن المراد به الرحمة فحمل أولاً على المعنى وفي الثاني على اللفظ. والفَتْحُ والإمساك استعارة حسنة "وَهُوَ العَزِيزُ" فيما أمسك أي كامل القدرة "الحَكِيمُ" فيما أرسل أي كامل العلم. قال - عليه (الصلاة و) السلام - "اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجدّ مِنْكَ الجِدُّ" .
قوله: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تَسْتَوجبُ الحمد على سبيل التفصيل بين النعمة على سبيل الإجمال فقال: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } وهي مع كونها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ } إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء وقال: "يَرْزُقُكُمْ" إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق في الانتهاء.
قوله: { مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ } قرأ الأخوان "غَيْرٍ" بالجر نعتاً "لِخَالِقٍ" على اللّفظ و "مِنْ خَالِقٍ" مبتدأ مراد فيه "من" وفي خبره قولان:
أحدهما: هو الجملة من قوله: "يَرْزُقُكُمْ".
والثاني: أنه محذوف تقديره: "لكم" ونحوه، وفي "يرزقكم" على هذا وجهان:
أحدهما: أنه صفة أيضاً لخلق فيجوز أن يحكم على مَوْضِعِهِ بالجر اعتباراً باللفظ وبالرفع اعتباراً بالمَوْضِعِ.
والثَّانِي: أنه مستأنف. وقرأ الباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر المبتدأ.
والثاني: أنه صفة لخالق على المَوْضِع والخبر إما محذوفٌ وإما "يَرْزُقُكُمْ".
والثالث: أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية لأن اسمَ الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام إلاَّ أن أبا حيان توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل وإن اعتمد إلا أنه لم يحفظ (فيه) زيادة "من" قال: فيحتاج مثله إلى سماع. ولا يظهر التوقف فإن شروط الزيادة والعمل موجودة، وعلى هذا الوجه "فَيرْزُقُكُمْ" إما صفة أو مستأنف.
وجعل أبو حيان استئنافه أولى، قال: لانتفاء صدق "خالق" على غير الله بخلاف كونه صفة فإن الصفة تُقَيَّد فيكون ثَمَّ خالق غير الله لكنه ليس برازقٍ. وقرأ الفضلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النحويّ "غَيْرَ" بالنصب على الاستثناء والخبر "يَرزُقُكُمْ" أو محذوف و "يرزقكم" مستأنفةٌ أو صفةٌ.
فصل
قال المفسرون: هذا استفهام على طريق التنكير كأنه قال: لا خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض أي من السماء المطر ومن الأرض النبات { لاَ إلَه إلاَّ هُوَ } مستأنف "فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ" أي فأنى تُصْرَفُونَ عن هذا الظاهر فكيف تشركون المَنْحُوتَ بمن له الملكوت؟ ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرِّسالة فقال: { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } يسلي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب (و) غير المكذب له الثواب بقوله: { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر فقال: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } يعني وعد القيامة { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } أي الشيطان. وقرأ العامة بفتح "الغَرُور" وهو صفة مبالغة كالصَّبُور والشَّكُور. وأبو السَّمَّال وأبو حَيْوَة بضمِّها؛ إما جمع غارٍ كَقَاعدٍ وقُعُودٍ وإمَّا مصدر كالجُلُوس.