التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
١٣٣
إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ
١٣٤
إِلاَّ عَجُوزاً فِي ٱلْغَابِرِينَ
١٣٥
ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلآخَرِينَ
١٣٦
وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ
١٣٧
وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٣٨
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
١٣٩
إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
١٤٠
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ
١٤١
فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
١٤٢
فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ
١٤٣
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٤٤
فَنَبَذْنَاهُ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ
١٤٥
وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ
١٤٦
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ
١٤٧
فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ
١٤٨
-الصافات

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } تقدم الكلام على نظيره، وقوله: "مُّصْبِحِينَ" حال، وهو من أصْبَحَ التامة أي داخلين في الصَّبَاح، ومنه:

4222- إذَا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْـ ـنِ فَاعْلَمْ بأَنَّه مُصْبِح

أي مقيم في الصباح، وتقدم ذلك في سورة الروم، و"بِاللَّيْلِ" عطف على الجارِّ قَبْلَها، أي ملتبسين بالليل، والمعنى أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام، والمسافر في أكثر الأمر إنما يَمْشِي في الليل أو في النهار فلهذا السبب عبر تعالى عن هذين الوقتين ثم قال: { وَبِٱلْلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي ليس فِيكُمْ عقول تَعْتَبرُون بها قوله: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } قرىء بضم النون وكسرها، قال الزمخشري، قال ابن الخطيب: وإنَّما صارت هذه القصة آخر القصص لأنه لم يصبر على أذى قومه، قال المفسرون: بَعَثَ الله تعالى يُونسَ عليه (الصلاة و) السلام إلى أرض نينَوى من أرض الموصل فدعاهم إلى الله - عز وجل - فكذبوه وتمادوا عليه على كفرهم فلما طال ذلك عليه خرج من بين اظهرهم وواعدهم حلول العذاب بعد ثلاث كما سياتي.
قوله: "إِذْ أَبَقَ" (ظرف للمُرْسَلِين، أي هو من المرسلين، حتى في هذه الحالة و "أَبَقَ" هرب يقال: أَبَقَ العَبْدُ يأبق إِبَاقاً فهو آبِقٌ و) الجمع إباق كضِرَابٍ، وفيه لغة ثانية أَبِقَ بالكسر يَأْبَقُ بالفتح وتَأَبَّقَ الرجلُ تشبه به في الاستتار، وقول الشاعر:

4223-............. (وَ) أَحْكَمَتْ حَكَمَاتِ القِدِّ وَالأَبَقَا

قيل: هو القِتب. (قوله): "فَسَاهَمَ" أي فغالبهم في المساهمة وهي الاقْتراعُ، وأصله (أن) يخرج السهم على من غلب "فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ" أي المغلوبين، يقال أدْحَضَ الله حُجَّتَهُ فَدَحِضَتْ أي أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدَّحْضِ وهو الزّلق يقال: دَحِضَتْ رِجْلُ البعير إذا زَلِقَتْ.
فصل
قال ابن عباس ووهب: كان يونُس وعد قومه العذاب فلما تأخر عنهم خرج كالمتشرِّد منهم فقصد البحر فركب السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون: ههنا عبد أَبَق من سيده فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس فاقترعوا ثلاثاً فوقعت على يونس فقال يونس: أنا الآبق وزَجَّ نَفْسَهَ في الماء.
قوله: { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } المليم الذي أتى بما يلام عليه. قال:

4224- وَكَمْ مِنْ مُليمٍ لَمْ يُصَبْ بمَلاَمَةٍ ومُشْبَعٍ بالذَّنْبِ لَيْسَ لَهُ ذنْبُ

يقال: ألاَمَ فلانٌ أي فعل ما يلام عليه، وقوله "وَهُو مُلِيمٌ" حال. وقرىء "مَلِيمٌ" بفتح الميم من لاَمَ يَلُومُ وهي شاذة جداً، إذا كان قياسها "مَلُومٌ"؛ لأنها من ذوات الواو كَمقُولٍ ومَصُوبٍ. قيل: ولكن أخذت من ليم على كذا مبنياً للمفعول ومثله في ذلك: شِيب الشيءُ فهو مَشِيبٌ ودُعِيَ فهو مَدْعِيٌّ. والقياس مَشُوبٌ وَمدعوٌّ لأنهما من يَشوب ويَدْعُو.
فصل
روى ابن عباس أن يونس - عليه (الصلاة و) السلام - كان يسكن مع قومه فِلَسْطِينَ فَغَزَاهُمْ ملكٌ وسَبَى منهم تسعة أسباط ونصف وبقي سبطان ونصف وكان قد أوحي إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوّكم (أ) وأصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبيٍّ من أنبيائهم أنْ اذْهَبْ إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل لهم يبعث إلى بني إسرائيل نبياً فاختار يُونُسَ - عليه (الصلاة و) السلام - لقوته وأمانته، قال يونس: الله أمرك بهذا؟ قال: لا ولكن أمرت أن أبْعَثَ قوياً أميناً وأنت كذلك فقال يونس: وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه؟ فألح الملك عليه فغضب يونُس منه وخرج حتى أتى بَحْر الروم فوجد سفينةً مشحونةً فحملوه فيها، فلما أشرف على لُجَّة البحر أشرفوا على الغرق. فقال الملاحون إن فيكم عاصياً وإلاّ لم يحصل في السفينة ما نراه. وقال التجار قد جرّبنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرج عليه نغرقه فلأن يغرق واحد خيرٌ من غَرَقِ الكل فخرج من بينهم يونس فقال يا هؤلاء: أنا العاصي وتلفّف في كساء ورمى بنفسه فالتقمه الحُوتُ وأوحى الله إلى الحوت: لا تكسر منه عظماً ولا تقطَعْ له وصلاً ثم إن السمكة خرجت من نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى (بَحْرِ) البطائح، ثم دجلة فصعدت به ورمته في أرض نَصِيبِينَ بالعَرَاء، وهو كالفَرْخ المَنتُوفِ لا شَعْرٌ ولا لَحْمٌ فأنبت الله عليه شجرةً من يَقْطين فكان يتسظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد. ثم إنَّ الأَرَضَـ(ـةَ) أكلتها فحَزِنَ يونُس لِذَلِكَ حُزْناً فقال يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والرِّيح وأَمُصُّ من ثمرها وقد سقطت فقيل (له): يا يونس تحزن (على شجرة) أَنْبَتَت في ساعة واقْتُلِعَتْ في ساعة ولا تحزن على مائة ألفٍ أو يزيدون تركتهم فانطلقْ إليهم.
قوله: { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } من الذاكرين الله قبل ذلك وكان كَثير الذِّكْر، قال ابن عباس: من المصلين وقال وهب: من العابدين. وقال الحسن: ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكن قَدَّمَ عَملاً صالحاً. وقال سعيد بن جبير هو قوله في بطن الحوت: "لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كنت من الظالمين".
قوله: "فِي بَطْنِهِ" الظاهر أنه متعلق "بلَبِثَ". وقيل: حال أي مستقر. وكان بَطْنه قبراً له إلَى يَوْمِ القيامة، قال الحسن: لم يلبث إلا قليلاً ثم أُخْرِجَ من بطن الحوت. وقال بعضهم: التقمة بكرة ولَفظَهُ عشيا وقال مقاتل بن حَيَّانَ ثلاثة أيام، وعن عطاء: سبعة أيام، وعن الضحاك، عشرون يوماً. وقيل: شهر، وقيل: أربعين يوماً.
قال ابن الخطيب: ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير. وروى أبو بردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال: سَبَّحَ يُونُسُ في بطن الحوت فسَمِعَت الملائكةُ تسبيحه فقالوا ربنا إنا نسمع صوتاً بأرضٍ غريبة فقال ذاك عبدي يونس عَصَانِي فحَبَسْتُهُ في بطن الحُوتِ في البَحْر، قالوا: العبدُ الصالح الذي كان يصيعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال: نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل. وروي أن يونس لما ابتلعه الحوت ابتلغ الحوتَ حوتٌ آخرُ أكبرُ منه فلما استقر في جَوْف الحُوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هي حَيٌّ فَخرَّ ساجداً وقال: يار رب اتخذت لك مسجداً لم يعبدك أحد في مثله.
قوله: "فَنَبَذْنَاهُ" أضاف النبذ إلى نفسه مع أن ذلك النبذ إنما حصل بفعل الحوت وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى. وقوله: "بِالعَرَآءِ" أي في العراء نحو: زَيْدٌ بِمَكَّةَ.
والعراء: الأرض الواسعة التي لا نباتَ بها و مَعْلَم اشتقاقاً من العُري وهو عدم السُّترة وسميت الأرض الجرداء بذلك لعدم استتهارها بشيء. والعَرَى بالقصر الناحية ومنه اعْتَرَاهُ أي قصد عَرَاهُ. وأما الممدود فهو كما تقدم الأرضُ الفَيْحَاءُ قال:

4225- وَرَفَعْتُ رِجْلاً لاَ أَخَافْ عِثَارَهَا ونَبَذْتُ بالمَتْنِ العَرَاءِ ثِيَابِي

قوله: "وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ" أي له، وقيل: عنده { شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } اليقطين (يَـ)ـفْعِيلٌ من قَطَنَ بالمكان إذا أقام فيه لا يَبْرَحُ. قال المبرد والزجاج: اليقطينُ كل ما لم يكن له ساقٌ من عُود كالقِثَّاءِ والقَرْع والبَطِّيخِ والحَنْظَلِ وهو قوله الحسن و (قتادة)، ومقاتل.
قال البغوي: المراد هنا القرع على قول جميع المفسرين. وروى الفراء أنه ورق القرع عن ابن عباس.
فقال: "ومَنْ جَعل ورق القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين".
واعلم أن في قوله: "شجرة" ما يرد قول بعضهم أن الشجرة في كلامهم ما كان لها ساق من عود بل الصحيحُ أنها أعم، ولذلك بُيِّنَتْ بقوله: "مِنْ يَقْطِينٍ"، وأما قوله:
{ { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ } [الرحمن: 6] فلا دليل فيه لأنه استعمال اللفظ العام في أحد مدلولاته.
وقيل: بل أنبت الله اليقطين الخاص على ساق معجزةً له، فجاء على أصله. قال الواحدي: الآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون:
أحدهما: أن هذا اليقطين لم يكن فأنبته الله لأجله، والآخر: أن اليقطين مغروس ليحصل له ظل، ولو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به. وقال مقاتل بن حَيَّان: كان يونس يستظلّ بالشجرة وكانت وَعْلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بُكْرةً وعشيًّا حتى اشتد لحمه ونَبَتَ شَعْرُهُ.
وقال ههنا: "فنبذناه بالعَرَاءِ" وقال في موضع آخر:
{ { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } [القلم: 49] ولكنه تداركه النعمة فنَبَذَهُ وهو غير مذموم.
فصل
قال شهاب الدين: ولو بنيت من الوعد مثل يقطين لقلت: يَوْعِيدٌ، لا يقال بحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة كيَعِدُ مضارع "وَعَدَ" لأن شرط تلك الياء أن تكون للمضارعة، وهذه مما يمتحن بها أهل التصريف بعضُهْم بعضاً.
قوله: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } يحتمل أن يكون المراد: "وَأرْسَلْنَاهُ قبل مُلْتَقَمِهِ"؛ وعلى هذا فالإرسال وإن ذكر بعد الالتقام فالمراد به التقديم. والواو معناها الجمع ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد الالتقام قال ابن عباس: كان إرسال يونسَ بعدما نبذة الحوت وعلى هذا التقدير يجوز أنه أرسل إلى قوم آخرينَ سوى القوم الأُوَل ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين بشريعة فآمنوا بها.
قوله: "أَوْ يَزِيدُونَ" في "أو" هذه سبعة أوجه تقدم تحقيقها أول البقرة عند قوله تعالى:
{ { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 19] فالشك بالنسبة إلى المخاطبين أي أن الرَّائِي يشك عند رؤيتهم، والإبهام بالنسبة إلى الله تعالى أبهم أمرهم والإباحة أي أن الناظر إليهم يباح له أن يحذرهم بهذا القدر أو بهذا القدر وكذا التخيير أي هو مخير بين أن يحذرهم كذا أو كذا، والإضراب ومعنى الواو واضحان.
قوله: { فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } قال قتادة أرسل إلى أهل نِينَوَى من أرض الموصل قبل الالتقام كما تقدم، وقيل: بعده، وقيل: إلى قوم آخرين. وتقدم الكلام على "أو". قال ابن عباس: إنها بمعنى الواو، وقال مقاتل والكلبي: بمعنى بل، وقال الزجاج: على الأصل بالنسبة للمخاطبين. واختلفوا في مبلغ الزيادة، قال ابن عباس ومقاتل: كانوا عِشْرين ألفاً. ورواه أبي بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال الحسن: بضعاً وثلاثينَ ألفاً، وقال سعيد بن جبير: تسعين ألفاً فآمنوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينَة العذاب فآمنوا فمتعناهم إلى حين انقضاء آجالهم.