التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٢١
أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٢
-الزمر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } (الآية) لما وصف الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيمة فيها وصف الدنيا بصفة توجب (اشتداد) النفرة عنها، وذلك أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ } أي عيوناً ومسالك وَركَايَا في الأرض ومجاري كالعروق في الأجساد { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } من خُضْرَة وحُمْرة، وصُفرة وبَيَاض وغير ذلك مختلفاً أصنافه من بُرٍّ وشَعير وسِمْسِمٍ "ثُمَّ يَهِـيجُ" أي يَبْيَسُ "فَتَراهُ مُصْفَرًّا" لأنه إذا تم جفافه جازَ (له) أن ينفصل عن منابته وإن لم تَتَفَرَّق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم تصير حُطَاماً فُتَاتاً متكّسراً { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } يعني من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلا بدّ من الانتهاء إلى أن يصير مُصْفَرَّ اللون متحطم الأعضاءِ والأجزاء ثم يكون عاقبته الموت، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات مذكرة حصول (مثل) هذه الأحوال في نفسه وفي حياته فحينئذ تعظم نُفْرتُهُ عن الدنيا ولذاتها.
قوله: "ثُمَّ يَجْعَلُهُ" العامة على رفع الفعل نَسَقاً على ما قبله، وقرأ أبو بشر ثم يَجْعَلَهُ منصوباً.
قال أبو حيان: قال صاحب الكامل - يعني الهُذَلِي -: وهو ضعيف. ولم يبين هو ولا صاحبُ الكامل وجهَ ضعفه ولا تخريجه، فأما ضعفه فواضحٌ حيث لم يتقدم ما يقتضي نصبه في الظاهر، وأما تخريجُهُ فذكر أبو البقاء فيه وجهين:
أحدهما: أن ينتصب بإضمار "أَنْ" ويكون معطوفاً على قوله: { أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } في أول الآية والتقدير: ألم تر إنزالَ اللَّه ثم جَعْلَهُ.
والثاني: أن يكون منصوباً بتقدير: ترى أي ثم ترى جَعْلَه حُطَاماً يعني أنه ينصب "بأَنْ" مضمرةً وتكون أن وما في حيِّزها مفعولاً به بفعل مقدر وهو "ترى" لدلالة: "أَلَمْ تَرَ" عَلَيْهِ.
قوله (تَعَالَى): { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } الآية، لما بين الدلائل الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله ووجوب الإعراض عن الدنيا وذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا تكمل إلا إذا شُرِحَ الصدر ونُوِّر القلب، والكلام في قوله (تعالى): { أَفَمَن شَرَحَ اللهُ } وقوله: "أَفَمَنْ يتقي" كالكلام في "أَفَمَنْ حَقَّ" والتقدير: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لْلإسْلاَم كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ، أو كالقَاسِي المُعْرِضِ لدلالة: { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } عليه وكذا التقدير في: "أَفَمَنْ يتقي" أي كمن أمن العذاب، وهو تقدير الزمخشري، أو: كالمُنعمِينَ في الجنة وهو تقدير ابن عطيَّةَ.
فصل
معنى شرح الله صدره للإسلام أيْ وسعه لقبول الحق { فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } كمن أقسى الله قلبه { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }. قال مالك بن دينار: ما ضرب عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوةِ وَمَا غضب الله على قوم إلا نَزَعَ منهم الرحمة.
فإن قيل: إن ذكر الله - عزّ وجلّ - سبب لحُصُول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى:
{ { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد:28] فكيف جعله في هذه الآية مبيناً لحصول القسوة في القلب؟.
فالجواب: أن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العُنْصر بعيدةً عن مناسبة الرُّوحَانِيَّات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمة والأخلاق الذَّميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوةً وكُدُورةً، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس تسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقِد الملح. وقد نرى إنساناً (واحداً) يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره، وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس، ولما نزل قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [المؤمنون: 12] وعمر بن الخطاب حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى: { { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [المؤمنون:14] قال كل (واحد) منهما: { { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون:14] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتب فكذا نزلت فازْدَادَ عمرُ إيماناً على إيمان، وازداد ذلك الإنسان (كفراً على كُفْرٍ) وإذا عرف هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله - عزّ وجلّ - يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانيَّة ويوجب القَسْوَة والبعد عن الحقّ في النفوس الخبيثة الشَّيْطَانِيَّة.