التفاسير

< >
عرض

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٧
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ
٦٨
وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٦٩
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ
٧٠
وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٧١
قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ
٧٢
وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ
٧٣
وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ
٧٤
وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٧٥
-الزمر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } قرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى قَدَّرُوا بتشديد الدال حَقَّ قَدْرِهِ بفتح الدال، وافقهم الأعمش على فتح الدال من "قَدَرِهِ" والمعنى وما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره.
قوله: { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ } مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي ما عظموه حق تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة، كقوله:
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة: 28] أي (كيف) تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا. و"جميعاً" حال وهي دالة على أن المراد بالأرض الأرضون فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع. قال ابن الخطيب: ونظيره قوله تعالى: { { كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [آل عمران: 93] وقوله: { { أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ } [النور:31] وقوله: { { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر:2] ولأن الموضع موضع تفخيم ولعطف الجمع عليها. (والعامل) في هذه الحال ما دل عليه "قَبْضَتُهُ"، (ولا يجوز أن يعمل فيها "قَبْضَتُهُ") سواء جعلته مصدراً؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله أم مراداً به المقدار. قال الزمخشري: ومع القصد إلى الجمع "يعني في الأرض" فإنه أرِيدَ به الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكده قبل مجيء الخبر ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ولكن عن الأرض كلها.
وقال أبو البقاء: و"جَمِيعاً" حال من الأرض، والتقدير: إذا كانت مجتمعةً قَبْضتُهُ أي مقبوضةً، فالعامل في "إذا" المصدر، لأنه بمعنى المفعول، وقال أبو علي في الحجة: التقدير: "ذَاتُ قَبْضَتِهِ". وقد رد عليه ذلك بأن المضاف إلَيْه لا يعْمَلُ فيما قبله، وهذا لا يصحُّ لن الآن غير مضاف إليه، وبعد حذف المضاف لا يبقى حكمه انتهى. وهو كلام فيه إشكال؛ إذ لا حاجة إلى تقدير العامل في "إِذ" التي لم يلفظ بها.
وقوله: "قَبْضَـتُهُ" إنْ قَدَّرْنَا مضافاً - كما قال الفارسيُّ أي ذاتُ قبضته - لم يكن فيه وقوع المصدر موقع "مفعول" وإن لم يُقَدَّر ذلك احتمل أن يكون المصدر واقعاً موقعه، وحينئذ يقال: كيف أنّث المصدر الواقع موقع مفعول وهو غير جائز؟! لا يقال: حُلّة نَسْجَةُ اليَمَن بل نَسْجُ اليَمن أي مَنْسُوجُه.
والجواب: أن الممتنع دخول التاء الدال على التحديد، وهذه المجرد التأنيث. كذا أجيب. وليس بذاك فإن المعنى على التحديد لأنه أبلغ في القدرة، واحتمل أن يكون أريد بالمصدر مقدار (ذلك) (التحديد).
والقَبْضَةُ - بالفتح - المَرَّة، وبالضم اسم المقبوض كالغُرْفَة والغَرْفَة، قال تعالى:
{ { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ } [طه:96].
والعامة على رفع "قبضته". والحسن ينصبها، وخرَّجها ابن خالويه وجماعة على النصب على الظرفية أي "(في) قَبْضَتِهِ". ورد هذا بأنه ظرف مختص فلا بد من وجود "في". وهذا هو رأي البصريين، وأما الكوفيون فهو جائز عندهم إذ يجيزون: زَيْدٌ دَارَك - بالنصب - أي في دَارك، وقال الزمخشري: جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم، فوافق الكوفيِّين.
قوله: "وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ" العامة على رفع "مَطْوِيَّات" خبراً، و"بِيَميِنِهِ" فيه أوجه:
أحدهما: أنه متعلق "بمطويات".
الثاني: أنه حال من الضمير في "مَطْوِيَّاتٍ".
الثالث: أنه خبر ثان، وعيسى والجحْدري نصباها حالاً. واستدل بها الأخفش على جواز تقديم الحال إذا كان العامل فيها حرف جر نحو: زَيْدٌ قائِمٌ في الدار. وهذه لا حجة فيها لإمكان تخريجها على وجهين:
أظهرهما: أن يكون "السموات" نسقاً على الأرض ويكون قد أخبر عن الأرضين والسموات بأن الجميع قبضته ويكون "مطويات" حالاً من السموات، كما كان جميعاً حالاً من الأرض و "بيمينه" متعلق "بمَطْوِيَاتٍ".
والثاني: أن يكون "مطويات" منصوباً بفعل مقدر و"بِيَمِيِنِهِ" الخبر، و"مَطْوِيَّات" وعامله جملة معترضة وهو ضعيف.
(فصل
لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد سواه بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية فقال: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عظموا الله حقَّ عظمته فقال: { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }، وروى البخاري أن حَبْراً من الأحْبَار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخالق على أصبع، ويقول: أنا الملك فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نَوَاجِذُهُ تصديقاً لقوله الحَبْر ثم قرأ: { وَمَا قَدَرُوا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } وروى مسلم قال: والجبالُ والشجرُ على إصبع وقال: ثم يهزّهُنَّ فيقول: أنا المَلِكُ أنَا الله. وروى شبيةُ عن ابن أبي شَيْبَةَ بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"يَطْوِي الله السَّمَوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى ثم يقال: أَنَا المَلِكُ أيْنَ الجَبَّارُونَ أيْنَ المُتَكَبِّرُون" . ولما بين سبحانه وتعالى عظمته قال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }).
فصل
قال ابن الخطيب: وههنا سؤالات:
الأول: أن العرض أعظم من السموات السبع، والأرضين السبع، ثم إنه تعالى قال في صفة العرش:
{ { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة:17] فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين للعرش العظيم فكيف يجوز تقرير عظمة الله عز وجل بكونه حاملاً للسموات والأرض؟!.
السؤال الثاني: قوله تعالى: { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } شرح حالاً لا يحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم مقرون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم وإن كان الخطاب مع المكذبين في النبوة فهم ينكرون قوله: { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟.
السؤال الثالث: حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدر الله تعالى فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة؟.
والجواب عن الأول: أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادراً على حفظ هذه الأجسام العظيمة كما أن حفظَها وإمساكها يوم القيامة عظيم، ثم بعده تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.
والجواب: عن الثاني: أن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأَرَضِين من وجوه العِمَارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإبقائها يوم القيامة وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق فإنه يدل على أنه حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض صغيرة، وذلك يدل على كمال الاستغناء.
والجواب عن الثالث: أنه إنما خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا والله أعلم.
قوله: { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } العامة على سكون الواو، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمع "صُورَة". وهذه ترد قول ابن عطية أن الصور هنا يتعين أن يكون القرن، ولا يجوز أن يكون جمع صورة. وقرىء: فصعق - مبنياً للمفعول - وهو مأخوذ من قوله: صَعَقَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، يال: صَعَقَهُ الله فَصُعِقَ.
قوله: { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } (استثناء) متصل، والمستثنى إما جبريل وميكائيل وإسرافيل: وإما رِضْوَان والحور والزبانية، وإما البارىء تعالى، قاله الحسن، وفيه نظر من حيث قوله { مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } فإنه لا يتحيز فعلى هذا يتعين أن يكون منقطعاً.
قوله: { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ } يجوز أن يكون "أخرى" هي القائمة مقام الفاعل وهي في الأصل صفة لمصدر محذوف أي نفخ فيه نفخة أخرى ويؤيده التصريح بذلك في قوله:
{ { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [الحاقة: 13] فصرح بإقامة المصدر ويجوزُ أن يكون القائم مقامه الجارّ، و"أُخْرَى"، منصوبة على ما تقدم.
قوله: { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ } العامة على رفع "قيام" خبراً، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ نصبه حالاً، وفيه حينئذ أوجه:
أحدهما: أن الخبر "ينظرون" وهو العامل في هذه الحال أي فإذا هُمْ يَنْظُرُونَ قِيَاماً.
والثاني: أن العامل في الحال ما عمل في "إذا" الفجائية إذا كانت ظرفاً. فإن كانت مكانية - كما قال سيبويه - فالتقدير فبِالحَضْرة هُمْ قياماً، وإن كان زمانية كقول الرّمَّانِي فتقديره: فَفِي ذلكَ الزمان هُمْ قياماً أي وجودهم، وإنما احتيجَ إلى تقدير مضاف في هذا الوجه لأنه لا يخبر بالزمان عن الجُثث.
الثالث: أن الخبر محذوف هو العامل في الحال أي فإذا هم مبعوثُون أو مجموعون قياماً، وإذا جعلنا الفجائية حرفاً كقول بعضهم فالعامل في الحال إما "ينظرون"، وإمّا الخبر المقدر كما تقدم تحقيقهما.
فصل
لما ذكر كمال قدرته وعظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريق آخر يدل أيضاً على كمال عظمته وهو شرح مقدمات يوم القيامة، لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم، فقال: { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ... } الآية.
اختلفوا في الصعقة فقيل: إنها غير الموت لقوله تعالى في موسى - عليه (الصلاة و) السلام -:
{ { وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } [الأعراف:143] وهو لم يمت فهذه النفخة تورث الفزع الشديد وعلى هذا فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد وهو المذكور في سورة النمل في قوله تعالى: { { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [النمل:87] وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين. وقيل: الصعقة عبارة عن الموت، والقائلون بهذا قالوا: المراد بالفزع أي كادوا يموتون من الفزع وشدة الصوت، وعلى هذا التقدير فالنفخة تحصل ثلاث مرات أولها نفخة الفزع وهي المذكورة في سورة النَّمل، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة، وقوله: { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } قال ابن عباس: نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في الأرض إلا جبريل وميكائيل وإسرافيل: وَيبْقَى جبريل وملك الموت، ثم يموت عزرائيل جبريل ثم يموت ملك الموت، وقيل: المستثنى هم الشهداء لقوله تعالى: { { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران:169] وروى أبو هريرة عن - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "هُمُ الشَّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أسْيَافَهُمْ حَوْلَ العَرْشِ" ، وقال جابر: هو موسى - صلى الله عليه وسلم - لأنه صُعِقَ، ولا يصعق.
وقيل: هم الحور العين وسكان العرش والكرسي، وقال قتادة: الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم.
ثم قال: { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولة لأن لفظة "ثم" للتراخي. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْن أربعون، قالوا: أرْبَعون يَوْماً قال: أبَيْتُ قالوا: أربعون شهراً قال: أبيت قالوا أربعون سنةً، قال: أبيت قال: ثم ينزل الله من السماء ماءً فتَنْبتُونَ كما ينبت البَقْلُ ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلاّ عظمٌ واحد وهو عَجبُ الذَّنَب، وفيه يركب الخلق يوم القيامة" .
وقوله: { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } يعني أن قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله: "فإذا هم" يدلّ على التعقيب، وقوله "يَنْظُرون" أي يقبلون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم، وقيل: ينظرون ماذا يفعل بهم، ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لأجل استيلاء الحَيْرة والدهشة عليهم.
قوله: { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ } العامة على بنائه للفاعل، وابن عباس وأبو الجَوْزاء.
وعُبَيدُ بنُ عُمَيْر، على بنائه للمفعول. وهو منقول بالهمزة من شَرقَتْ إذا طلعت، وليس من أشْرقَتْ بمعنى أضاءت لأن ذلك لازمٌ، وجعله ابن عطيّة مثل رَجَعَ ورجَعْتُهُ، وَوَقَفَ وَوَقَفْتُهُ فيكون أشرق لازماً ومتعدياً.
فصل
هذه الأرض عَرْصة القيامة وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى:
{ { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ } [إبراهيم: 48] وقوله: "بِنُورِ رَبِّهَا" أي خالقها يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه، وقال الحسن والسدي: بنور ربها أي بعدل ربها قال عليه (الصلاة و) السلام: "إنَّكُمْ سَتَروْنَ رَبَّكُمْ" وقال: "كما لا تُضَارُّونَ فِي الشَّمْس في اليَوْم الصَّحْو" ، وقوله: "وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ" أي كتاب الأعمال لقوله: { { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } [الإسراء: 13] وقوله: { { مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف:49] وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
وقوله: { وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ } قال ابن عباس: يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال عطاء ومقاتل: يعني الحَفَظَة لقوله تعالى:
{ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق:21]، وقي: أراد بالشهداء: المستشهدون في سبيل الله.
ثم قال: { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ } أي بالعدل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي يُزادون في سيئاتهم ولا يُنْقَصُ من حسناتهم { ووفِّيت كُلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ } أن ثَوَابَ مَا عَمِلَتْ: واعلم أنه تعالى لما بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات:
أولها: قوله تعالى: { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ }.
وثانيها: قوله تعالى: { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
وثالثها: قوله تعالى: { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ }.
واربعها: قوله تعالى: { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } يعني أنه (إن) لم يكن عالماً بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي (إلا) بالحق لأجل عدم العلم أما إذا كان عالماً بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ عليه، والمقصود من الآية المبالغة في تَقْرِير أن كل مؤمن فإنه يصل إلى حقه، قال عطاء يريد أنّي عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا شاهد.
قوله: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } لما شرح أحوال أهل القيامة على سبل الإجمال وقال: { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } بين بعده كيفية أحوال العقاب ثم كيفية أحوال الثواب، فأما شرحُ أحوال العقاب فهو هذه الآية وهذا السَّوْق يكون بالعُنُق والدفع بدليل قوله تعالى:
{ { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [الطور:13] أي يدفعون دفعاً، وقوله: { { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } [مريم:86].
قوله: "زُمَراً" حال، و "زُمَرٌ" جمع "زُمْرة" وهي الجماعات في تفرقة بعضها في إثر بعض، و"تَزَمَّرُوا" تجمعوا قال:

4311- حَتَّى احْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ

هذا قول أبي عبيد(ة)، والأخفش، وقال الراغب: الزُّمْرة الجماعة القليلة، ومنه شاة زمرة أي قليلة الشعر، ورجل زَمِرٌ أي قليل المروءة، وزَمَرَت النَّعَامَةُ تَزْمُر زِمَاراً ومنه اشتق الزّمر. والزَّمَّارة كناية عن الفاجرة.
قوله: "حَتَّىٰ إِذَا" تقدم الكلام في "حتى" الداخلة على "إذا" مِرَاراً، وجواب "إذا" قوله: فتحت. وتقدم خلاف القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام.
قوله: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } قرأ ابن هُرْمز أَلَمْ تَأْتِكُمْ بتاء التأنيث لتأنيث الجمع، و "مِنْكُمْ" صفة "لرسل" أو متعلق بالإِتْيان و "يَتْلُونَ" صفة أُخْرى، و "خَالِدينَ" في الموضعين حال مقدرة.
فصل
بين تعالى أنهم يُسَاقُون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابُها، وهذا يدل على أن أبواب جهنم تكون مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنةُ جهنم: ألم يأتكم رسل منكم أي من جنسكم يتلون عليكم آياتِ ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا.
فإن قيل: لِمَ أضيفَ اليوم إليهم؟.
فالجواب: أراد لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة واستعمال لفظ اليوم (إليهم) والأيام في أوقات الشدة مستفيض فعند هذا تقول الكفار "بَلَى" أتونا وتَلَوْا علينا { وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرينَ } أي وجبت كلمة العذاب على الكافرين وهي قوله عزو وجل:
{ { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13]. وهذا صريح في أن السعيد (لا ينقلب) شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً، ودلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا أنهم ما بقي لهم عُذرٌ ولا علة بعد مجيء الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام -، (ولو) لم يكن مجيء الأنبياء شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدةٌ.
ثم إنَّ الملائكة إذا سَمِعُوا منهم هذا الكلام قالوا: لهم ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّم خَالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبرينَ.
(قالت المعتزلة: لو كان دخولهم النار لأجل أنهم حقت عليهم كلمة العذاب لم يبق لقوله الملائكة: { فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ } فائدةٌ)، وأجيبوا بأن (هذا) الكلام إنما يبقى مفيداً إذا قلنا: إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم ولم يلتفتوا إلى دلائلهم، وذلك يدل على صحة قولنا. والله أعلمْ.
قوله: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً }.
فإن قِيلَ: السَّوْقُ في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يُسَاقُوا إليه، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأيُّ حاجة فيه إلى السَّوْق؟!.
فالجواب: من وجوه:
الأول: أن المحبة و الصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى:
{ { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67]. فإذا قيل لواحد منهم: اذهب إلى الجنة فيقول: لا أدخلها إلا مع أحبَّائِي وأصدقائي فيتأخرونَ لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السَّوق إلى الجنة.
والثاني: أن المتقين قد عبدوا الله لا للجنة ولا للنار فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال مانِعاً لهم من الرغبة في الجنة فلا جَرَمَ يحتاجون إلى أن يُسَاقُوا إلى الجنة.
والثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أكثر أهل الجنة البُلْهُ" فلهذا السبب يساقون إلى الجنة.
الرابع: أن أهل النار وأهل الجنة يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهَوَان والشدّة كما يفعل بالأسير الذي يساق إلى الحبس والقتل، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يُذْهب بهم إلا رَاكِبينَ، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرّضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين إلى الملوك فشتان ما بين السَّوْقَتْنِ.
قوله: { حتى إذا جاءوها وَفُتِحَتْ } في جواب "إذا" ثلاثة أوجه:
أحدهما: قوله: "وَفُتِحَتْ" والواو زائدة. وهو رأي الكوفيين والأخفش. وإنّما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجن تكون مغلقةً إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فيفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها فعلى ذلك أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على دخولهم إليها كما قال تعالى:
{ { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } [ص:50] فلذلك جيء بالواو فكأنه قيل: حتى إذا جاؤوها وقود فتحت أبوابها.
والثاني: أن الجواب قوله: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } على زيادة الواو أيضاً أي حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها.
والثالث: أن الجواب محذوف قال الزمخشري: وحقه أن يقدر بعد: "خَالِدين" انتهى يعني لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط وما عطف عليه، والتقدير: اطْمَأَنُوا، وقدره المبرد: سُعِدُوا، وعلى هذين الوجهين فتكون الجملة من قوله: "وَفُتِحَتْ" في محل نصب على الحال. وقال البغوي: قال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف تقديره: حَتَّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادْخُلُوها خالدين "دخلوها". فحذف "دَخَلُوهَا" لدلالة الكلام عليه، وسمى بعضهم الواو في قوله "وفتحت" واو الثمانية قال: لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله:
{ { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف:22]. وقيل: تقديره: حتى إذا جاءوها (جاءوها) وفتحت أبوابها يعني أن الجواب بلفظ الشرط، ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صَحَّ.
قوله: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا } يريد أن خزنة الجنة يسلمون عليهم ويقولون: طبتم قال ابن عباس: طاب لكم المقام. وقال قتادة: إنهم إذا قطعوا النار حُبسُوا على قَنْطَرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعد حتى إذا هذبوا وطيبوا أُدْخِلُوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه: سَلاَمٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين.
وروي عن علي قال: سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرةً يخرج من تحت ساقها عَيْنَانِ فيغتسل المؤمن من إِحْدَايْهِما فيطهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون: { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } فعند ذلك يقول المتقون: الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض أي أرض الجنة وهو قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } [الأنبياء:105].
قوله: "نَتَبَوَّأُ" جملة حالية و "حَيْثُ" مفعول به، ويجوز أن تكون ظرفاً على بابها، وهو الظاهر، قال ابن الخطيب: إنما عبر عن أرض الجنة بالأرض لوجوه:
الأول: أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم - عليه (الصلاة و) السلام - لأنه تعالى قال:
{ { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } [البقرة:35] فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً للإرث.
الثاني: أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل: هذا الذي أورث كذا وهذا العمل أورث كذا. فلما كانت طاعاتهم قد أفادتهم الجنة لا جَرَمَ قالوا: وأورثنا الأرض، والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أَوْرَثتِ الجَنَّةَ.
الثالث: أن الوارث يتصرف فيما يرثه كيف يشاء من غير منازع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة حين شاءوا وأرادوا.
فإن قيل: هل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟.
فالجواب: يكون لكل واحد منهم جنة لا يحتاج معها إلى جنة غيره.
ثم قال تعالى: { فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } أي ثواب المطيعين، قال مقاتل: هذا ليس من كلام أهل الجنة بل الله تعالى لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده: { فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ }.
قوله: { وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } حَافّين جمع حَافٍّ: وهو المحدق بالشيء من حَفَفْتُ بالشيء إذا أحَطْتَ به، قال:

4312- يَحُفُّهُ جَانِبَا نيقٍ وَيُتْبِعُهُ مِثْلَ الزّجَاجَةِ لَمْ تَكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ

وهو مأخوذ من الحِفَاف وهو الجانب قال:

4313- لَهُ لَحَظَاتٌ عَنْ حِفَافَيْ سَرِيرِهِ إِذَا كَرَّهَا فِيهَا عِقَابٌ وَنَائِلُ

وقال الفراء - وبتعه الزمخشري - ولا واحِدَ لحافّين وكأنهما رأيا أن الواحد لا يكون "حَافًّا" إذ الحفوف هو الإحداق بالشيء والإحاطة به وهذا لا يتحقق إلا في جمع.
فصل
لما ذكر صفة (الثواب) البشر ذكر عقيبه ثواب الملائكة فكما دارُ ثواب المتقين هو الجنة فكذلك دارُ ثواب الملائكة جوانب العرش فقال: { حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } أي محدقين محيطين بالعرش بحفافيه أي جوانبه، قال الليث حَفَّ القَوْمُ بسَيِّدِهِمْ يَحُفُّونَ حَفًّا إِذَا طافوا به.
قوله: "مِنْ حَوْلِ" في "من" وجهان:
أحدهما: وهو قول الأخفش: أنها مزيدة.
والثاني: أنها للابتداء.
وقوله { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } "يسبحون" حال من الضمير في "حافين"، قيل هذا تسبيح لتذذ لا تسبيح تعبد، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم. وهذا يشعر بأن ثوابهم هو عَين ذلك التسبيح.
قوله: { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقِّ } هذا الضمير إما للملائكة، وإما للعباد(ة)، وَقِيلَ: قضى بين أهل الجنة والنار بالعدل. { وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. وقيل: إن الملائكة لما قضى بينهم (بالحق) قالوا: الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق.
روى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم):
"مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الزُّمَر لَمْ يَقْطَعِ اللَّهُ رَجَاءَهُ وَأعْطَاهُ ثَوَابَ الخَائِفينَ" . وعن عاشئة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ كُلَّ ليلة بني إِسْرَائِيلَ والزُّمَر" . رواهما الثعلبي في تفسيره. والله (تعالى) أعلم.