التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٠
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

لما رَغَّبَ في الهِجْرَة، ذكر السَّبَب الذي يَمْنَع الإنْسَان من الهِجْرَة ثم أجَابَ عَنه، وذلك المَانِعُ أمْرَان:
الأوّل: أن يكون في وَطَنِه في راحةٍ وَرَفَاهِية فيظن لأنه بِمفَارَقَتِه للوَطَن يقع في الشِّدَّة وضيق العَيْش، فأجاب اللَّه عن ذلك بقوله: { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً }.
قال القرطبي: قوله: { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } شرط، وجَوَابُه: { يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ }.
واشتِقاق المُرَاغَم من الرغَام وهو التُّرَاب؛ يقولون: رغم أنفه، ويريدون أنه وَصَل إلى شَيْء يَكْرَهُه؛ لأن الأنْفَ عضو في غاية العِزَّة، والتُّرَاب في غاية الذِّلَّة، فجعلوا قولهم: رغم أنْفه كنَايَةً عن الذُّلِّ، إذا عرف هذا، [فنقول] المشهُور أن هذه المُرَاغَمة إنِّما حصلَت بسبَب فراقهِم، وخُرُوجهم عن دِيَارهم، وعن ابن عبَّاس: "مُرَاغماً" [أي]: مُتَحَوِّلاً [يتحوَّلُ إليه].
وقال مُجَاهد: متَزَحْزحاً عما يكْره، سُمِّيت المهاجرة مُرَاغَمَة؛ لأن من يَهَاَجر يراغم قَوْمَه؛ لأنه لا يجد ذلك [البَلَد] من النِّعْمَة والخَيْر، ما يكون سَبَباً لرغم أنْفِ أعْدَائِه الَّذِين كَانُوا معه في بلدته الأصْلِيّة، فإنه إذا اسْتَقَام حَالهُ في تِلْكَ البَلَد الأجْنَبِيَّة، وَوَصَل خَبَرُه إلى أهْل بَلدتهِ، خجلوا من سُوءِ معامَلَتِهم له، ورغمت أنُوفُهم بذلك وهَذَا أوْلى الوُجُوه.
وأمَّا المَانِعِ الثاني عن الهجرة: فهو أن الإنْسَان يَقُول: إن خَرَجْت عن بَلَدي لطلب هذا الغَرَضِ، فربما وَصَلْتُ إليه، وربَّما لم أصِلْ إليه، فالأولى ألاَّ أُضِيعَ الرَّفَاهِيَة الحَاضَرة بسبب طَلَبِ شَيء قد يَحْصُل، فأجَابَ الله - تعالى - عن ذَلِك بقوله: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ }.
والمراد بـ "السِّعَة": سعة الرِّزْق، وقيل: سَعَة من الضَّلال إلى الهُدَى.
قوله - تعالى -: { وَمَن يَخْرُجْ [مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }].
روي أنه لما نَزَلت هذه الآيَةِ، سَمِعَها رجلٌ من بَنِي لَيْث شَيْخٌ كبير مَرِيضٌ يقال له: جُنْدَعُ بن ضَمْرة، فقال: واللَّه ما أنَا ممَّن استَثْنَى الله - عز وجل -، وإني لأجِدُ حِيلَة، ولي من المَالِ ما يُبَلِّغُنِي المَدِينَةَ وأبعد مِنْهَا، واللَّه لا أبِيتُ اللَّيلة بمكَّة، أخرِجُوني، فخرجوا به يَحْمِلُونه على سَرير حتى أتَوْا به التَّنْعِيم، فأدركه المَوْتُ، فصفَّق بيمِينِه على شِمَالِه، فقال: اللَّهُم هذه لك وهذه لِرَسُولِك، أبَايعُك على ما بَايَعَك عليه رَسُولكُ، فمات فَبَلَغ خَبَرُه أصْحَاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لو وَافَى المَدِينَة لكان أتمَّ أجْراً. وضَحِكَ المُشْرِكُون وقالوا: ما أدْرَك هذا ما طَلَب، فأنْزَلَ الله - تعالى -: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ [فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ }] أي: قبل بُلُوغه إلى مهاجره، "فقد وقع أجْرُه على اللَّه". أي: وجَب بإيجَابِه على نفسه فَضْلاً مِنْه.
و "مُهَاجِراً" نصب على الحالِ من فَاعِل "يَخْرُج".
فصل
قال بَعْضُهم: إن من قَصَد طاعَةً وعجز عن إتْمَامِهَا، كتب اللَّه ثَوابَ تِلْكَ الطَّاعَة؛ كالمرِيض يَعْجَزُ عما كان يَعْمَلُه في حال صِحَّتِه من الطَّاعَة، فيكتب الله [لَهُ] ثواب ذلك العَمَل؛ هكذا رُوِي عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم.
وقال آخَرُون: يُكْتَب له: أجر قَصْدِه، وأجْر القَدْرِ الذي أتَى به من ذَلِكَ العَمَل، أما أجْرُ تَمَام العَمَلِ، فذلك مُحَالٌ.
والقول الأوَّل أوْلى؛ لأنه - تعالى - ذكر هذه الآيَةِ في مَعْرِض التَّرْغِيب في الهِجْرة، وهو أنَّ من خرج للرَّغْبَة في الهِجْرة، فقد وجد ثَوَاب الهِجْرَة، والتَّرْغِيبُ إنما يَحْصُل بهذا المَعْنَى، فأما القَوْل بأنّ معنى الآيةِ هو أن يَصِل إليه ثَوَابُ ذَلِكَ القَدْر من العَمَل، فلا يَصْلُح مرغِّباً؛ لأنه من المَعْلُوم أن كُلَّ من أتَى بِعَمَلٍ فإنه يَجِدُ الثَّوَاب المرتَّبَ على قَدْرِ ذلك العَمَل.
فصل: شبه المعتزلة في وجوب الثواب على الله والرد عليها
قالت المُعْتَزِلَة: هذه الآية تَدُلُّ على أن العمل يُوجِب الثَّوَاب على الله - تعالى -؛ لقوله: { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ }، وذلك يدلُّ على قَوْلِنَا من ثلاثة أوجُه:
الأول: حقيقة الوُجُوب هو الوُقُوع والسُّقُوط؛ قال - تعالى -:
{ { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } [الحج: 36] أي وقعت وسَقَطَت. وثانِيها: أنه ذَكَرُه بلفظ الأجْر، والأجر عبارة عن المَنْفَعَة المسْتَحقِّة، فأمَّا الذي لا يكُون مُسْتَحقاً، فلا يُسَمَّى أجْراً، بل يُسمَّى هِبَةً.
وثالثها: قوله: "على الله" وكلمة "عَلَى" للوُجُوب؛ قال - تعالى -:
{ { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ [مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ] [آل عمران: 97].
والجواب: أنا لا نُنَازعُ في الوُجُوب، لكن بِحُكْم الوَعْد والتَّفْضُّل والكرم، لا بحكم الاسْتِحْقَاق الذي لو لم يفْعَل لخَرَج عن الإلهيَّة.
فصل
نقل القُرْطُبِي عن مالكٍ؛ أنه قال: هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ ليس لأحَدٍ المُقَامُ بأرض يُسَبُّ فيها السَّلَفُ ويُعْمَلُ فيها بِغَيْر الحَقِّ.
فصل
استدَلُّوا بهذه الآيَةِ على أنَّ الغَازِي إذا مَاتَ في الطَّرِيقِ، وَجَبَ سهْمُهُ في الغَنِيمَةِ، كما وَجَبَ أجْرُه، وفيه ضَعْفٌ؛ لأن لَفْظَ الآيَةِ مَخْصُوص بالأجْر، وأيْضاً فاسْتِحْقَاق السَّهم من الغَنِيمَة مُسْتَحقٌّ بحيازَتِها، إذ لا يَكُون ذلك إلا بَعْد حِيَازَتِها.
قوله - تعالى -: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال عِكْرمَة مَوْلى ابْن عبَّاس: طَلَبْتُ اسم هذا الرَّجُل أرْبَع عَشْرَة سَنَة حتى وَجَدْتُه، وفي قول عِكْرمة [هذا] دَلِيلٌ على شَرَفِ هذا العِلْمِ، وأنَّ الاعْتِنَاء به حَسَنٌ والمَعْرِفَة به فَضْلٌ؛ ونحوه قول [ابن عبَّاسٍ]: مكثت سِنين أريد أن أسْأل عُمَر - رضي الله عنه - عن المَرْأتَيْن اللَّتَيْن تظاهرتا على رسُول الله صلى الله عليه وسلم فما يَمْنَعُنِي إلا مَهَابَتُه، والذي ذَكَرَه عِكْرِمَة هو قَوْل ضمرة بن العِيص، أو العيص بن ضمرة بن زِنْبَاع، حَكَاه الطَّبَرِي عن سَعِيد بن جُبَيْر، ويقال فيه ضُمَيْرة أيضاً، وذَكَرَ أبُو عمرو أنَّه قد قِيلَ فيه: خَالِد بن حزام بن خُوَيْلد ابن أخِي خَدِيجَة [خرج] مُهَاجراً إلى أرْض الحَبَشَة، فَهَتَفَتْهُ حيَّة في الطَّرِيق، فمات قبل أن يَبْلُغ أرْض الحَبَشَة؛ فأنزل الله فِيهِ الآية، وحكى ابْن الحَوْزِيّ أنه حَبيبُ بن ضَمْرة.
وقال السُّدِّيُّ: ضَمْرة بن جُنْدب الضمريّ.
وحكى المهدَوِيّ أنه ضمرة بن ضمرة بن نُعيم، وقيل ضمرة بن خُزاعَةَ.
وروى معمر عن قتادة: لما نَزَل قوله - تعالى -:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } [النساء: 97] قال رَجُل من المُسْلِمِين وهو مَرِيضٌ: والله - تعالى - ما لي عُذْرٌ: إني لَدَلِيل في الطَّرِيق وإني لمُوسِرٌ، فاحْمِلُوني فأدْركه المَوْتُ في الطَّرِيق، فقال أصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم: لو بَلَغ إلَيْنَا لتَمَّ أجْرُه، وقد مات بالتَّنْعِيم، وجاء بَنُوه إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقِصَّة، فنزل قوله: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً [إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }] الآية.
قوله: "ثم يدركه" الجُمْهُور على جَزْم "يدركْه" عَطْفاً على الشَّرْطِ قبله، وجوابه: "فقد وقع" وقرأ الحَسَن البصري بالنَّصْب.
قال ابن جِنِّي: "وهذا لَيْس بالسَّهْل، وإنما بَابُه الشَّعْر لا القُرْآنُ، وأنشد [الوافر]

1868- سَأتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيم وَألْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا

والآيةُ أقْوَى من هذا؛ لتقدُّم الشرط قَبْلَ المَعْطُوف"، يعني: أن النَّصْب بإضْمَار "أن" إنَّمَا يقع بعد الواوِ والفَاءِ في جَوَابِ الأشْيَاء الثَّمانية أو عَاطِفٍ، على تَفْصِيلٍ في كُتُب النحو، والنَّصْبُ بإضْمَار "أن" في غَير تِلْك المَوَاضِع ضَرُورَةٌ؛ كالبيتِ المتقدم؛ وكَقوْل الآخر: [الطويل]

1869-............................. وَيَأوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا

وتبع الزَّمَخْشِري أبا الفَتْح في ذلك، وأنْشَد البَيْت الأوَّل. وهذه المَسْألة جَوَّزها الكُوفيُّون لمدركٍ أخرَ، وهو أن الفِعْلَ الواقِع بين الشَّرْط والجَزَاء، يجوز فيه الرَّفْعُ والنَّصْبُ والجَزْمُ إذا وَقَعَ بعد الواوِ والفَاءِ؛ واستدَلُّوا بقول الشَّاعر: [الطويل]

1870- ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَهُ مُطْمَئِنَّةً فَيُثْبِتَهَا فِي مُسْتَوى الْقَاعِ يَزْلَقِ

وقول الآخر: [الطويل]

1871- ومَنْ يَقْتَربْ مِنَّا ويَخْضَعَ نُؤوِه ولا يَخْشَ ظُلْماً مَا أقَامَ وَلاَ هَضْمَا

وإذا ثَبَتَ ذلك في الواوِ والفَاءِ، فليَجُزْ في "ثُمَّ"؛ لأنها حَرْف عَطْفٍ.
وقرأ النَّخعِيُّ، وطَلْحَة بن مُصَرِّف برفع الكَافِ، وخَرَّجَها ابن جنِّي على إضْمَار مُبْتَدأ، أي: "ثم هو يُدْرِكُه المَوْتُ" فعطفَ جُمْلَةً اسمِيّة على فِعْليّة، وهي جُمْلَة الشَّرْطِ: الفعلُ المَجْزُومُ وفاعلُه، وعلى ذلك حَمَل يُونُس قولَ الأعْشَى: [البسيط]

1872- إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الخَيْلِ عَادَتُنَا أوْ تَنْزِلُون فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ

أي: وأنتم تنزلون، ومثله قول الآخر: [البسيط]

1873- إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتِيِنِي بَقِيَّتُكُمْ فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ عِنْدَكُمْ حُوبُ

أي: ثم أنتم تَأتيني، وهذا أوْجهُ من أن يُحْمَل على أن يَأتِيني. قلتُ: يريدُ أنه لا يُحْمَلُ على إهْمَالِ الجَازِمِ، فيُرْفَعُ الفعل بعده، كما رفع في:

1874- ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي بِمَا لاَقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ

فلم يَحْذِفِ اليَاء، وهذا البَيْت أنشده النَّحويُّون على أنَّ عَلاَمَةَ الجَزْم، حَذْفُ الحَرَكَةِ المُقَدَّرة في حَرْفِ العِلَّة، وضَمُّوا إليه أبياتاً أخَرَ، أمَّا أنَّهم يَزْعُمُون: أنَّ حَرْف الجَزْم يُهْمل، ويَسْتدلون بهذا البَيْت فَلاَ. ومنهم مَنْ خَرَّجَهَا على وَجْه أخَر؛ وهو أنه أراد الوَقْفَ على الكلمة، فنقلَ حَركَة هَاءِ الضَّمِير إلى الكَافِ السَّاكنَة للجَزْمِ، كقولِ الآخَر: [الرجز]

1875- عَجِبْتُ والدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُه مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّنِي لَمْ أضْرِبُهْ

يريد: "لم أضْرِبْه" بسكون البَاء للجَازِم، ثم نَقَل إليها حَركَة الهاءِ، فصار اللَّفْظُ "ثم يُدْرِكُهْ" ثم أجْرََى الوصْلَ مُجْرى الوَقْفِ، التقى ساكنان، فاحْتاجَ إلى تَحْرِيك الأوَّلِ وهو الهَاءُ، فَحَرَّكها بالضَّمِّ؛ لأنه الأصلُ، وللإتباع أيضاً.
ثمَّ قالَ اللَّه - تعالى -: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي: ويَغْفِرُ [اللَّه] ما كَانَ مِنْهُ [مِنِ القُعود] إلَى أنْ خَرَجَ.
فصل
قال ابن العَرَبِيَّ: قَسَّمَ العُلَمَاءُ الذِّهَاب في الأرْض [إلى] قسمين: هَرباً، وطلباً.
والأول ينْقَسِم سِتَّة أقْسَام:
أحدها: الهِجْرَة: وهي الخُروج من دَارِ الحرب إلى دَار الإسْلام، وكانت فَرْضاً في أيَّام النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذه الهِجْرَةِ باقيةٌ مفروضَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَة، والَّتِي انقطعت بالفَتْح: هي القَصْد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَ، فإنْ بَقِيَ في دَارِ الحَرْب، عصى ويختلف في حَالِه.
وثانيها: الخُرُوج من أرْض البِدْعَة؛ كما تقَدَّم نَقْلُه عن مالك؛ فإنه إذا لم يَقْدِر على إزَالة المُنْكَر يَزُولُ عَنْهُ، قال [الله] - تعالى -:
{ { وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [الأنعام: 68].
وثالثها: الخُرُوج من أرض غلب عليها الحرامُ؛ لأن طَلَب فَرْضٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ.
ورابعها: الفِرَار من الأذِيَّة في البَدَن، وذلك فَضْل من اللَّه ورُخْصَةٌ؛ كما فَعَل إبْراهيم - عليه الصلاة والسلام - لمَّا خَاف من قَوْمه وقال:
{ { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ } [العنكبوت: 26]، وقال: { { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات: 99]، وقال - تعالى - حكاية عن موسى - عليه الصلاة والسلام: { { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [القصص: 21].
وخامسها: خَوْف المَرَضِ في البلاد الوَخمة، فيخرج إلى أرْضِ النزهة؛ لأن النِّبي صلى الله عليه وسلم أذن للرُّعاة حين استَوْخَمُوا المدينة، أن يَخْرُجُوا إلى المَسْرَح فيكونوا فيه؛ حتى ما يَصحُّوا، وقد استُثْني من ذلك الخُرُوج من الطَّاعُون، بِمَا في الحَدِيث الصَّحيح.
وسادسها: الفِرَار خَوْف الأذِيَّة في المَالِ، فإن حُرْمة مال المُسْلِم؛ كَحُرْمَة دَمِه.
وأما الطَّلَبُ فينقسم قِسْمَيْن:
طلب دِين وطَلَب دُنْيَا.
فأمَّا طَلَب الدِّين فينقسم إلى تِسْعَة أقْسَام:
الأول: سَفَر العِبْرة، قال تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ [كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ] [الروم: 9].
يقال: إنَّ ذا القَرْنَيْنِ إنَّما طَافَ الأرْضَ؛ ليرى عَجَائِبَها، وقيل: ليُنْفِذَ الحَقَّ فيها.
الثاني: سفر الحَجِّ، فالأوَّل نَدْب، وهذا فَرْضٌ.
الثالث: الجهاد [وله أحكامُه].
الرابع: سَفَر المعاش؛ إذا تَعَذَّر على الرَّجُل مَعَاشُه مع الإقامة، فيخرج في طَلَبِه لا يزيد عَلَيْه؛ من صَيْد، أو احتِطَابٍ، أو احتشَاسٍ، فهو فَرْضٌ عَلَيْه.
الخامس: سَفَر التِّجَارة والكَسْب الزَّائِد على القُوتِ، وذلك جَائِزٌ بفضل الله تعالى؛ قال - تعالى -:
{ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة: 198] يعني: التِّجَارة، وهو نِعْمَة مَنَّ الله بِهَا في سَفَر الحَجِّ، [فكيف إذَا انْفَرَدَتْ].
السَّادس: طلب العِلْم.
السَّابِع: قصد البِقَاع الشَّرِيفة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -
"لا تُشَدُّ الرِّحَال إلاَّ إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِد" .
الثَّامن: الثُّغُور للرِّبَاط بها.
التاسع: زيارة الإخْوَان في الله - تعالى -؛ قال - عليه الصلاة والسلام:
"زارَ رجُلٌ أخاً لَهُ في قَرْيَة، [فأَرْصَدَ الله له مَلَكاً على مدرجته، فقال: أيْن تُرِيدُ، قال: أريد أخاً لِي في هَذِهِ القَرْيَة]، فقال: هل له عَلَيْك من نِعْمَةٍ تَرُبُّها عَلَيْه، قال: إني أحْبَبْتُه في اللَّه، قال: فإني رسُول اللَّه إلَيْك، بأنَّ الله قد أحَبَّك كَمَا أحْبَبْتَهُ فيه" [رواه مسلم، وغيره].