التفاسير

< >
عرض

وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
١٢٩
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً
١٣٠
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

وفيه قولان:
الأول: لن تَقْدِرُوا في التَّسْوِية بَيْنَهُنَّ في مَيْل الطِّبَاع، من الحُبِّ ومَيْل القلب، وإذا لم تَقْدِرُوا عليه، لَمْ تكُونوا مكَلَّفين به.
قالت المُعْتَزِلَة: هذا يدلُّ على أن تَكْلِيفَ ما لا يُطَاق، غيْر وَاقِع ولا جائز الوُقُوع، وقد تَقَدَّم إلزامهم في العِلْمِ والدَّاعِي، وقد يُجَاب أيْضاً: بأنه - تعالى - إنما نَفَى الاسْتِطَاعة الَّتي هي من جِهَة المكَلَّفِ، ولَمْ يَنْفِ التَّكْلِيف الَّذِي هو من جهة الشَّارع، فالآيَة لا تَدُلُّ على نَفْيِ التَّكْلِيفِ، وإنما تَدُلُّ على نفي اسْتِطَاعة المكَلَّف.
الثاني: لا يستطيعون التَّسْوِيَةَ بينهن في الأقْوَال والأفْعَال؛ لأن التَّفَاوُت في الحُبِّ، يوجِبُ التَّفَاوُت في نتائِجِ الحُبِّ؛ لأن الفِعل بدون الدَّاعِي، [و] مع قيام الصَّارف مُحَالٌ.
ثم قال: "فَلاَ تَمِيلُواْ" أي: إلى التي تُحِبُّونها، "كُلَّ المَيْل" في القِسْمة، واللَّفْظ والمَعْنَى: أنكم لَسْتُم تَحْتَرِزُون عن حُصُول التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبِي؛ لأن ذَلِك خَارِجٌ عن وُسْعكُم، ولكنكم مَنْهِيُّون عن إظْهَار ذلك [التفاوت] في القَوْل والفِعْل.
"روي عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم: [أنه] كان يَقْسِم، ويقول: هذا قَسَمِي فيما أمْلِكُ، وأنْت أعْلَم بما لا أمْلِكُ" .
قوله: "كُلَّ المَيْلِ": نصبٌ على المَصْدرية، وقد تقرر أن "كل" بحسَبِ ما تُضَاف إليه، إنْ أضيفَت إلى مَصْدرٍ - كانت مَصْدَراً - أو ظرفٍ، أو غَيْرِه؛ فكذلك.
قوله: "فَتَذَرُوهَا" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَنْصُوب بإضْمَارِ "أنْ" في جَوابِ النَّهْي.
والثاني: أنه مَجْزُوم عَطْفاً على الفِعْل قبله، أي: فلا تَذرُوها، ففي الأوَّل نَهْيٌ عن الجمع بينهما، وفي الثاني نهيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ، والضَّميرُ في "تَذَرُوها" يعود على المُميلِ عنها؛ لدلالة السِّياق عليها.
قوله: "كالمُعلَّقة": حال من "ها" في "تَذَروها" فيتعلَّق بمَحْذُوف، أي: فتذُروها مُشْبهةً المُعَلَّقة، ويجُوز عندي: أن يَكُون مفعولاً ثانياً؛ لأن قولك: "تَذَر" بمعنى: تَتْرك، و"تَرَك" يتعدَّى لاثْنَيْن إذا كان بِمَعْنَى: صيَّر.
والمعنى: لا تَتَّبِعُوا هَوَاكُم، فَتَدَعُوا الأخْرى كالمُعَلَّقَة لا أيِّماً، ولا ذَات بَعْل؛ كما أن الشَّيء المُعَلَّق لا [يَكُون] على الأرْضِ، ولا على السَّماءِ، وفي قِرَاءة أبَيِّ: "فَتَذَرُوها كالمَسْجُونَة"، وفي الحَدِيث:
"من كَانَت له امْرأتَانِ يميلُ مع إحْدَاهُمَا، جاء يَوْم القِيَامة وأحدُ شِقَّيْه مَائِلٌ" .
قوله: "وإن تُصْلِحُوا" بالعدل في القَسْم، و"تَتَّقُوا": الجور { فإن الله كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } لما حَصَل في القَلْبِ من المَيْلِ إلى بَعْضِهِنَّ دون بَعْضٍ.
وقيل المعنى: وإن تُصْلحوا ما مَضَى من مَيْلِكُم، وتَتَدَارَكُوه بالتَّوْبَة، وتَتَّقُوا في المُسْتَقْبَل عن مِثْلِه، غفر اللَّه لكم ذَلِكَ، وهذا أوْلَى؛ لأن التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبي ليس في الوُسْع، فلا يحتاج إلى المَغْفِرَة.
قوله "وَإنْ يَتَفَرَّقا" يعني: الزَّوْج والمَرْأة بالطَّلاق، { يُغنِ اللَّه كُلاًّ مِن سَعَتِهِ }: من رزقه، يعني: المَرْأة بِزَوْج آخر، والزَّوْج بامرأة أخْرى.
وقيل: يُغْنِي اللَّه كل واحِدٍ منهما عن صَاحِبِه بعد الطَّلاقِ، { وكان اللَّه واسِعاً حَكِيماً } وصف نفسه بِكَوْنه وَاسِعاً؛ ولم يُضِفْه إلى شَيْء؛ لأنه - تعالى - وَاسِعُ الفَضْل، واسع الرِّزْقِ، واسع النِّعْمَةِ، واسع الرَّحْمَةِ، واسع القُدْرَةِ، واسِعُ العِلْمِ، واسعٌ في جميع الكمالات، فلو قالَ: واسِعٌ في كذا، لاخْتَصَّ بذلك المَذْكُور، وقوله: "حكيماً" قال ابن عبَّاسٍ: يريد فيما أمرَ ونَهَى، وقال الكلبيُّ: فيما حَكَم على الزَّوْج من إمْسَاكِهَا بمعرُوفٍ، أوْ تسريحٍ بإحْسَانٍ.
فصل
حُكْم الرَّجلِ إذا كان تَحْتَهُ امْرأتَان أوْ أكْثَر، يجِبُ عليه التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ في القَسْم، فإن ترك التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ في القَسْم، عَصَى اللَّه - تعالى -، وعليه القَضَاءُ للمَظْلُومة، والتَّسْوِيَة شَرْط في البَيْنُونَةِ أمَّا في الجِمَاع فَلاَ؛ لأنه يَدُور على النَّشَاطِ وليس ذَلِكِ إلَيه، ولو كانت تَحْتَه حُرّةٌ وأمَةٌ فإنَّه يَبِيتُ عِنْد الحُرَّة لَيْلَتَيْن، وعند الأمَة لَيْلَة، وإذا تَزَوَّج جَدِيدَةً على قَدِيمَة، يخص الجَدِيدَة بأن يَبِيت عِنْدَهَا سَبْعَ لَيَالٍ على التَّوالِي إن كانت بِكْراً، وإن كانت ثَيِّباً، فثلاث لَيَالٍ، ثم يُسَوِّي بعد ذَلِك بين الكُلِّ، ولا يجب قَضَاء هذه الثلاث للقَدِيمَات؛ لقول أنسٍ: من السُّنَّةِ إذا تزوَّج البكر على الثَّيِّب أن يُقِيم عِنْدَها سَبْعَةً، وإذا تزوَّج الثَّيِّب على البِكْرِ، أن يُقِيم عندها ثلاثاً، فإن أحبَّت الثَّيِّبُ أن يُقِيم عِنْدَها سبْعاً، فعل، ثم قَضَاه للبَوَاقِي؛ لأن
"النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما تَزَوَّج أمَّ سَلَمَة أقام عِنْدَها سَبْعاً، ثم قال: لَيْس بك هَوانٌ على أهْلِكِ، إن شِئْت سَبَّعْت لَكِ، وإن سَبَّعْت لك سَبَّعْت لِنِسَائي" ، وإذا أرادَ الرَّجُل سفرَ حَاجَةٍ، فيجُوزُ له أنْ يحمل بَعْضَ نِسَائِه [معه بالقُرْعَة بَيْنَهُنَّ]، ولا يَجِبُ عليه [أن] يَقْضِي للبَاقِيَات مُدَّة سَفَرِه وإن طَالَتْ إذا لَمْ يزدْ مَقَامُهُ في بَلْدة على مُدَّة المُسَافِرِين؛ لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سَفَراً، أقْرَعَ بين نِسَائِه، فأيّتهن خَرَج سهُمُهَا، خرج بِهَا مَعَهُ، أما إذا أرَادَ سَفَرَ نَقْلةٍ، فَلَيْسَ له تَخْصِيصُ بَعْضِهِن، لا بِقُرْعَة ولا بِغَيْرها.