التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً
١٤١
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

في: "الذين يتربَّصُون": ستَّة أوجه:
أحدُها: أنه بدلٌ من قوله: "الذين يتَّخِذُون"، فيجيء فيه الأوْجُه المذْكُورة هناك.
الثاني: أنه نَعْتٌ للمنافِقِين على اللَّفْظِ، فيكون مَجْرورَ المَحَلِّ.
الثالث: أنه تابعٌ لهم على المَوْضِع، فيكونُ مَنْصُوبَ المَحَلِّ، وقد تقرَّر أنَّ اسم الفاعل العامِل إذا أُضيفَ إلى مَعْمُوله، جاز أن يُتْبَعَ مَعْمُولُه لفظاً وموضعاً، تقول: "هذا ضاربُ هندٍ العاقلةِ والعاقلةَ" بجرِّ العاقلة ونصبها.
الرابع: أنه منصوبٌ على الشَّتْم.
الخامس: أنه خَبَرُ مبتدأ مُضْمَر، أي: هُمُ الذين.
السادس: - وذكره أبو البقاء - أنه مُبْتَدأ، والخبرُ قوله: { فإنْ كان لَكُمْ فَتحٌ }، وهذا ضَعِيفٌ؛ لنبوِّ المَعْنَى عنه ولزيادةِ الفاءِ في غير مَحَلِّها؛ لأنّ هذا الموصُولَ غيرُ ظاهر الشَّبهِ باسْمِ الشرط.
فصل في معنى الآية
ومعنى "يتربَّصُون بِكُم": ينتظرون بكُم الدَّوَائِر، يعنى: المُنَافِقِين، ينتظرون ما يَحْدُث من خَيْر وشَرٍّ، { فإنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ } أي: ظهورٌ على اليَهُود، وظَفر، وغَنَيِمة، { قالوا ألمْ نكُن معكُم } على دينكُم وفي الجِهَاد كنَّا معَكُم، فأعْطُونا قِسْماً من الغَنِيمَةِ، { وإنْ كانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } يعني: ظَفرٌ على المُسْلِمِين، "قَالُوا": يعني: المُنَافِقِين للكافرين: { أَلَمْ نَسْتَحْوذْ عَلَيْكُم } والاستحواذ: الاستيلاء والغَلَبة على الشَّيْء، ومنه:
{ { ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ } [المجادلة: 19]، ويقال: حَاذَ وأحَاذَ بِمَعْنًى؛ والمصدر: الحَوْذ، وفي المَعْنَى وُجُوهٌ:
الأول: أن المَعْنَى: ألم نَغْلِبكُم، ونتمكَّن من قَتْلِكُم وأسركُم، ثم لم نَفْعَل شَيْئاً من ذَلِك، { وَنَمْنَعْكُم مِّنَ ٱلمُؤْمِنِينَ } أي: نَدْفَع عَنْكُم صولة المُؤمِنين بِتَخْذِيلهم، وتوانينا في مُظاهَرَتِهم، فأعطونا نَصِيباً ممَّا أصَبْتُم.
الثاني: قال المُبَرِّد: يقول المُنَافِقُون للكفَّار: ألم نَغْلِبْكُم؛ فإن المُنَافِقِين بالغُوا في تَنْفِير الكَافِرِين، وأطْمَعُوهم أنه سَيضْعُفُ أمر محمَّدٍ، وسَيَقْوى أمركم، فإذا اتَّفَقَتْ للكفَّار دَوْلةٌ على المُسْلِمين، قال المُنَافِقُون: ألَسْنَا غلبناكم على رَأيِكُم في الدُّخُول في الإسْلام، ومَنَعْنَاكُم منه، فلمَّا شاهَدْتُم صِدْق قَوْلِنا، فأعْطُونا نَصِيبَنَا ممَّا أخَذْتُمْ، ومرادُ المُنافقين: إظْهَار المِنَّة على الكَافِرِين بهذا الكلامِ.
الثالث: ألم نُخْبِرْكم بِعَزِيمَةِ محمَّدٍ وأصحابه، ونُطْلِعْكُم على سِرِّهِم.
فإن قيل: لِمَ سَمَّى ظَفر المُسْلِمين فتحاً، وظفر الكُفَّار نَصِيباً.
فالجواب: أنه تعظيم لشأن المُؤمنين، وتحقير لحظِّ الكَافِرِين؛ لأن ظَفر المُسْلِمين أمر عظيم، يفتح الله لَهُ أبْوَاب السَّمَاء؛ حتى تَنْزل الرَّحْمَة على أوْلِيَاء اللَّه، وأما ظَفر الكَافِرِين: فما هُوَ إلا حَظٌّ دنيويٌّ يَنْقَضِي، ولا يَبْقَى منه إلا اللَّوْم في الدُّنْيَا، والعُقُوبة في الأخْرَى.
قوله: "ونمنعكم" الجمهورُ على جَزْمه، عطفاً على ما قبله.
وقرأ ابن بي عَبْلَة بنصب العَيْن وهي ظَاهِرَةٌ؛ فإنه على إضْمَار "أنْ" بعد الوَاوِ المقتَضِيَة للجَمْع في جواب الاستفهامِ؛ كقول الحُطيْئَة: [الوافر]

1892- ألَمْ أكُ جَارَكُمْ ويَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ والإخَاءُ

وعَبَّر ابنُ عَطِيَّة بعبارة الكوفيين، فقال: "بفتحِ العَيْن على الصَّرْف" ويعنون بالصَّرْف: عدمَ تَشْريكِ الفِعْلِ مع ما قَبْلَه في الإعْرَاب.
وقرأ أبيّ: "ومنعناكم" فعلاً ماضياً، وهي ظاهرةٌ أيضاً؛ لأنه حُمِلَ على المَعْنَى، فإنَّ معنى "أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ": إنَّا قد اسْتَحْوَذْنا، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على نَفْي قَرَّره، ومثلُه:
{ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا } [الشرح:1، 2] لَمَّا كان "أَلم نَشْرَحْ" في معنى: "قد شَرحْنَا" عُطِفَ عليه "ووضَعْنا".
ونَسْتَحْوِذُ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياساً، وفَصُحَ استعمالاً؛ لأنَّه مِنْ حقِّه نَقْلُ حركةِ حَرْفِ علَّتِه إلى السَّاكِن قبلها، وقَلْبها ألفاً؛ كاسْتَقَام واسْتَبَان وبابه، وقد قدمت تَحْقِيق هذا في قوله - تعالى - في الفاتحة: "نَسْتَعين"، وقد شذَّت معه ألفاظٌ أخَرُ، نحو: "أغْيَمَتْ وأغيلت المرأة وأخْيَلت السَّماء" قصرها النَّحْوِيُّون على السَّماع، وقاسها أبُو زَيْد.
قوله: { فالله يحكم بَيْنَكُم } قيل: هنا مَعْطوفٌ مَحْذُوف، أي: وبينهم؛ كقوله: [الطويل]

1893- فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً أبُو حُجُرٍ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ

أي: وبيني، والظَّاهرُ أنه لا يحتاج لذلك؛ لأن الخِطَاب في "بَيْنَكُم" شاملٌ للجَميع، والمرادُ: المُخَاطَبُون والغَائِبُون، وإنما غَلَّبَ الخطاب؛ لما عَرَفْتَ من لُغَة العرب.
فالمعنى: أنَّ الله يَحْكُم بين المُؤمنين والمُنَافقين يوم القيامةِ، ولم يَضِع السَّيْف في الدُّنْيَا عن المُنَافِقِين، بَلْ أخّر عِقَابِهِم إلى يَوْم القِيَامَةِ.
قوله: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً }.
قال عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: في الآخِرة، قال يُسَيْع الحضرمِيّ: كُنْتُ عند عَلِيٍّ - رضي الله عنه -، فقال [له] رجُلٌ يا أمير المُؤمنين: أرأيْت قوله - تبارك وتعالى -: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً }. كيف ذَلِك، وهم يُقَاتِلُوننَا ويَظْهَرُون علينا أحْيَاناً.
فقال عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: معنى ذلك: يَوْم القيامة؛ وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عبَّاسٍ، وقيل: لا يجعل الله للكافرين على المُؤمنين سَبِيلاً، إلا أنْ يتواصوا بالبَاطِل، ولا يَتَنَاهَوْا عن المُنْكَرِ، ويتقاعَدُوا عن التَّوْبة، فيكون تَسْلِيطُ العدُوِّ من قبلهم؛ كما قال:
{ { وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى: 30].
قال ابن العَرَبِيِّ: وهذا نَفِيسٌ.
وقيل: ولَنْ يَجْعَل اللَّه للكَافِرِين على المُؤمنين سَبِيلاً شَرْعاً، فإنْ وُجِد، فَبِخلاف الشَّرْع.
وقال عِكْرمة، عن ابن عبَّاسٍ: حُجَّة في الدُّنْيَا، وقيل: ظُهُوراً على أصْحَاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: عَامٌّ في الكُلِّ، إلا ما خصَّه الدَّلِيلُ.
قوله: على المُؤمنين يَجُوز أن يتعلَّق بالجَعْلِ، ويجُوز أن يتعلَّق بِمَحذُوفٍ،؛ لأنه في الأصْل صِفَة لـ "سَبِيلاً"، فلما قُدِّم عليه، انْتَصَبَ حالاً عَنْهُ.
فصل
استدَلُّوا بهذه الآية على مَسَائِلَ:
منها: استيلاء الكَافِر على مال المُسْلِمِ بدَارِ الحَرْب، لم يَمْلِكْه.
ومنها: أن الكَافِر ليس لَهُ أن يَشْتَرِي عَبْداً مسلماً.
ومنها: أنَّ المُسْلِم لا يُقْتَل بالذِّمِّيِّ.