التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً
١٥٩
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

لما ذكر فَضَائِح اليَهُود وقبحَ أفْعَالِهِم، وأنَّهم قَصَدُوا قَتْل عِيسَى عليه الصلاة والسلام، وأنَّه لم يَحْصُل لهم ذَلِكَ المَقْصُود، وأنَّ عيسى - عليه السلام - حَصَل له أعْظَمُ المَنَاصِبِ، بَيَّن أن هؤلاء اليهُود الذين بَالَغُوا في عَدَاوَتِهِ، لا يَخْرُجُ أحَدٌ مِنْهُم من الدُّنْيَا إلا بَعْدَ أن يُؤمِنَ به، فقال: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ }، "إنْ" هنا نافيةٌ بمعنى "مَا"، و "مِنْ أهْلِ" يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه صفة لمبتدأ محذوف، والخبرُ الجملةُ القسمية المحذوفة وجوابها، والتقدير: وما أحدٌ من أهل الكتاب إلاَّ واللَّهِ ليُؤمِننَّ به، فهو كقوله:
{ { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164]، أي: ما أحدٌ مِنَّا، وكقوله: { { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71] أي: مَا أحَدٌ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُها، هذا هو الظاهر.
والثاني - وبه قال الزمخشري وأبو البقاء -: أنه في محلِّ الخبر، قال الزمخشري: "وجملة "لَيُؤْمِنَنَّ به" جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف، تقديره: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتاب أحَدٌ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ بِهِ، ونحوه: { وما منا إلا له مقام معلوم } { وإن منكم إلا واردها }، والمعنى: "وما من اليهود أحَدٌ إلاَّ ليُؤمنَنَّ"، قال أبو حيان: "وهو غلطٌ فاحشٌ؛ إذ زعم أن "لَيُؤْمِنَنَّ بِه" جملة قسمية واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة "أحَد" المحذوف إنما الجار والمجرور؛ كما قَدَّرناه، وأمَّا قوله: "لَيُؤْمِنَنَّ بِه"، فليستْ صفةً لموصوف، ولا هي جملة قسمية، إنما هي جملة جواب القَسَم، والقسم محذوفٌ، والقسمُ وجوابُه خبر للمبتدأ، إذ لا ينتظم من "أحَد"، والمجرور إسناد؛ لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسنادُ بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو مَحَطُّ الفائدةِ، وكذلك أيضاً الخبرُ هو { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ }، وكذلك "إِلاَّ وَارِدُهَا"؛ إذ لا ينتظم مما قبل "إلاَّ" تركيب إسناديٌّ". [قال شهاب الدين] وهذا - كما تَرَى - قد أساء العبارة في حق الزمخشريِّ؛ بما زعم أنه غلط، وهو صحيح مستقيم، وليت شعري كيف لا ينتظم الإسنادُ من "أحَد" الموصوفِ بالجملة التي بعده، ومن الجارِّ قبله؟ ونظيرُه أن تقول: "مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ إلاَّ صَالِحٌ" فكما أن "فِي الدَّار" خبر مقدَّم، و"رَجُلٌ" مبتدأ مؤخر، و"إلاَّ صَالِحٌ" صفته، وهو كلامٌ مفيد مستقيمٌ، فكذلك هذا، غايةُ ما في الباب أنَّ "إلاَّ" دخلت على الصفة؛ لتفيدَ الحصْر، وأما ردُّه عليه حيث قال: جملةٌ قسميَّة، وإنما هي جوابُ القسَم، فلا يَحْتاجُ إلى الاعتذار عنه، ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضاتِ.
واللام في "ليُؤمِنَنَّ" جوابُ قسمٍ محذوف، كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: "ليُؤمِنَنَّ جواب قسمٍ محذوفٍ، وقيل: أكَّدَ بها في غير القسَم؛ كما جاء في النفي والاستفهام"، فقوله: "وقيل... إلى آخره" إنما يستقيم ذلك، إذا أعَدْنا الخلاف إلى نونِ التوكيد؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطِّرادٍ، وفي النفي على خلاف فيه، وأما التأكيدُ بلام الابتداء في النفي والاستفهام، فلم يُعْهَد ألبتة، وقال أيضاً قبل ذلك: "وما مِنْ أَهْلِ الكتاب أحدٌ، وقيل: المحذوفُ "مَنْ" وقد مرَّ نظيره، إلا أنَّ تقديرَ "مَنْ" هنا بعيدٌ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسْمِ، و"مَنْ" الموصولة والموصوفةُ غيرُ تامَّة"، يعني أن بعضهم جعل ذلك المحذوفَ لفظَ "مَنْ"، فيقدِّر: وإنْ مِنْ أهْلِ مَنْ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ، فجعلَ موضع "أحَد" لفظ "مَنْ"، وقوله: "وقَدْ مرَّ نظيره"، يعني قوله تعالى:
{ { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } [آل عمران: 199] ومعنى التنظير فيه أنه قد صرَّح بلفظ "من" المقدَّرةِ ههنا.
وقرأ أبَيٌّ: "ليُؤمِنُنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ" بضم النون الأولى مراعاة لمعنى "أحَد" المحذوف، وهو وإن كان لفظه مفرداً، فمعناه جمع، والضمير في "به" لعيسى - عليه السلام -، وقيل: لله تعالى، وقيل: لمحمَّد - عليه السلام -، وفي "مَوْته" لعيسى، ويُروى في التفسير؛ أنه حين ينزل إلى الأرض يُؤمِنُ به كلُّ أحدٍ، حتى تصيرَ المِلّةُ كلُّها إسلامية وهو قَوْلُ قَتادَة، وابن زَيْدٍ وغيرِهِما، وهو اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ.
وقيل: يَعُود على "أحَد" المُقدَّر، أي: لا يَمُوت كِتَابِيٌّ حتى يُؤمن بعيسى قبل مَوْتِهِ عند المُعَايَنَةِ حين لا يَنْفَعُهُ.
ونُقِل عن ابن عَبَّاسٍ ذلك، فقال له عِكْرِمة، أفَرأيْتَ إن خَرَّ بَيْتٌ أو احْتَرَق أو أكَلَهُ سَبُعٌ؟ قال: لا يمُوتُ حَتَّى يُحَرِّكَ بها شَفَتَيْهِ، أي: بالإيمَانِ بعيسى.
وروى شَهْر بن حَوْشب [عن الحَجَّاج؛ أنه] قال يا شهر آية في كتاب الله ما قَرأتُهَا إلاَّ في نفسي مِنْهَا شَيْءٌ، يعني: هذه الآيَةَ؛ فإني أضْرِبُ عُنُقَ اليَهُودِي، ولا أسْمَعُ منه ذلِك، فقُلْتُ: إن اليَهُودِي إذا حَضَرَهُ المَوْتُ ضَرَبَت الملائِكَة وَجْهَهُ وَدبُرَهُ، وقالوا: يا عَدُوَّ اللَّهِ، أتاك عِيسَى نَبِيّاً فكَذَّبْت [به، فيقُولُ:] آمنْتُ أنه عَبْدُ الله، وتقول للنَّصْرَانِيِّ: أتَاك عِيسَى نَبِيّاً فَزَعَمْت أنَّه اللَّهُ وابْنُ اللَّهِ، فيقول: آمَنْتُ أنه عَبْدُ الله، فأهْلُ الكِتَابِ [يؤمِنُون] به، ولكن حَيْثُ لا يَنْفَعُهُم ذَلِك الإيمانُ، فاسْتَوَى الحَجَّاج جَالِساً فقال: مِمَّن نَقَلْتَ هذا؟ فقال: حَدَّثَنِي [به] محمد بن عَلِيّ ابن الحَنفِيَّة، فأخذ يَنْكُتُ في الأرْضِ بِقَضيبٍ، ثم قال: أخَذْتهَا من عَيْنٍ صَافِيَةٍ.
وقرأ الفَيَّاض بن غزوان "وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ" بتشديد "إنَّ"، وهي قِرَاءَةٌ مَرْدُودَةٌ لإشْكَالِهَا.
فصل
رَوَى أبُو هُرَيْرَة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"يُوشِكُ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابن مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، ويَقْتُلُ الخِنْزِيرَ، ويَضَعُ الجزْيَةَ، ويَفِيضُ المَالُ حَتَّى لا يَقْبَلُه أحَدٌ، وتميلُ في زَمَانِهِ المِلَلُ كُلُّهَا إلى الإسْلامِ، ويَقْتل الدَّجَّال، فيمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعين سَنَةً، ثم يُتَوَفَّى فيُصَلّي عليه المُسْلِمُون" وقال أبو هريرة اقْرَءُوا إن شِئْتُم: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي: قبل مَوْتِ عيسى ابن مريم - [عليه السلام] - ثم ليعيدها أبو هُرَيْرَة ثلاث مَرَّاتٍ.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: والفَائِدَةُ في إخْبَارِ الله - تعالى - بإيمانِهِم بعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِم - أنَّهُم متى عَلِمُوا أنه لا بُدَّ لهم من الإيمَانِ به لا مَحَالَة، مع كَوْنِه لا يَنْفَعُهُم الإيمانُ في ذَلِك الوَقْتِ، فلا يُؤمِنُوا به حَالَ ما يَنْفَعُهُم ذلك الإيمَانُ.
قوله سبحانه { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } العالم فيه "شَهِيداً" وفيه دليلٌ على جوازِ تقدُّم خبر "كان" عليها؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤذِن بتقديمِ العامل، وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بـ "يكُون" وهذا على رأي مَنْ يجيز لـ "كَان" أن تعمل في الظرفِ وشبهه، والضميرُ في "يكُون" لعيسى يعني: يكُون عيسى عليهم شَهيداً: أنه قد بَلَّغَهُم رِسَالة رَبِّه، وأقَرَّ بالعُبُودِيَّة على نفْسِهِ مُخْبِراً عنهم
{ { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [المائدة: 117] وكل نَبِيٍّ شَاهِدٌ على أمَّتِهِ، وقيل: الضَّميرُ في "يكُونُ" لمحمَّدٍ - عليه السلام -.