التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
١٦٣
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً
١٦٤
رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٦٥
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

لما حَكَى أن اليَهُود يَسْألُون الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أنْ يُنَزِّل عَلَيْهِم كِتَاباً من السَّمَاءِ؛ وذكر - تعالى - بَعْدَهُ أنَّهُم لا يَطْلُبُون ذَلِك اسْتِرشاداً، ولكن عِناداً، وحَكَى أنْواع فَضَائِحِهم وقَبَائِحِهم، فلما وصل إلى هذا المَقَامِ، شرع الآن في الجواب عن تلك الشُّبْهَة؛ فقال: { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ }. والمَعْنَى: أنّا تَوافَقْنَا على نُبُوَّة نُوحٍ وإبراهيمَ وإسماعيل وجميع المَذْكُورين، على أنَّ الله - تعالى - أوحَى إليهم، ولا طَريقَ إلى العِلْم بكَوْنِهِم أنْبِيَاء الله وَرُسُلِهِ إلا المُعْجِزَاتِ، ولكُلِّ واحدٍ مِنْهُم نوْعٌ من المُعْجِزَة مُعَيَّنَة، وأما أنْزلَ الله على كُلِّ وَاحِدٍ من هؤلاء المذكورين [كِتَاباً بتَمَامِهِ؛ مثل ما أنْزَلَ على مُوسَى، فلما لم يَكُن عَدَمُ إنْزَالِ الكِتَابِ على هؤلاء] دفْعَةً واحِدَةً قَادِحاً في نُبُوَّتِهِم، بل كفى في ظُهُور نُبُوَّتِهم نَوْعٌ واحدٌ من أنْوَاعِ المُعْجِزَاتِ، عَلِمْنَا أن هذه الشُّبْهَة زَائِلَة، وأن إصْرَار اليَهُود على طَلَبِ المُعْجِزَةِ باطِلٌ؛ لأن إثْبات المدْلُولِ يَتَوَقَّفُ على إثبَاتِ الدَّلِيل، فإذا حَصَل الدَّليلُ وتَمَّ، فالمُطَالَبَةُ بِدَلِيل آخر يَكُون تَعَنُّتاً ولَجَاجاً.
قوله سبحانه: { كَمَآ أَوْحَيْنَآ }: الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إيحاءً مثْلَ إيحَائِنَا، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدر المحذوف المقدَّرِ معرَّفاً، أي: أوحينَاهُ، أي: الإيحاءَ حال كونه مُشْبِهاً لإيحَائِنَا إلى مَنْ ذكر، وهذا مذهبُ سيبويه، وقد تقدَّم تحقيقه، وفي "ما" وجهان: أن تكون مصدريةً؛ فلا تفتقر إلى عائدٍ على الصحيح، وأن تكون بمعنى "الذي"، فيكون العائدُ محذوفاً، أي: كالذي أوحيناهُ إلى نوح، و"مِنْ بعْدِهِ" متعلقٌ بـ "أوْحَيْنَا"، ولا يجوز أن تكون "مِنْ" للتبيين؛ لأنَّ الحالَ خبرٌ في المعنى، ولا يُخْبَرُ بظرفِ الزمانِ عن الجثَّة إلا بتأويلٍ، وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق بنفس "النَّبيِّينَ"، يعني أنه في معنى الفعل؛ كأنه قيل: "وَالَّذِينَ تَنَبَّئُوا من بَعْدِهِ" وهو معنى حَسَنٌ.
فصل لماذا ذكر نوح - عليه السلام - أولاً
قالوا: إنَّما بَدَأ - تعالى - بذِكْرِ نُوحٍ؛ لأنه كان أبا البَشَرِ مِثْل آدم - عليه السلام -، قال:
{ { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ } [الصافات: 77]؛ ولأنَّه أول نَبِيٍّ شرحَ الله على لِسَانِه الأحْكَام، وأوَّل نَذِيرٍ على الشِّرْك، وأوَّل من عُذِّبَتْ أمَّته لردِّهم دَعْوَتَه، وأهْلِك أهْلُ الأرْضِ بدُعَائِهِ، وكان أطْوَل الأنْبِيَاءِ عُمُراً، وجُعِلَت مُعْجِزَتُه في نَفْسِهِ، لأنَّه عمر ألْفَ سَنَةٍ، فلم تَنْقُص له سِنٌّ، ولم تَشِبْ له شَعْرَةٌ، ولم تَنْتقصْ له قُوَّة، ولم يَصْبِر أحَدٌ على أذَى قَوْمِهِ مِثْل ما صَبَر هُو على طُولِ عُمُرِه.
فصل
قوله [- تعالى -] { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } ثم خصَّ بعض النَّبِييِّن بالذِّكْرِ؛ لكونهم أفْضَلَ من غَيْرهم؛ كقوله:
{ { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة: 98].
واعْلَم أنَّه ذكر في هذه الآية اثْنَا عشرة نَبِيًّا، ولَمْ يذكُر مُوسَى مَعَهُم؛ لأن اليَهُود قالُوا: إنْ كُنْتَ يا مُحَمَّد نَبِيًّا [حَقًّا]، فأتِنَا بكتابٍ من السَّماءِ دَفْعَةً واحِدَةً؛ كما أتى موسى - عليه الصلاة والسلام - بالتَّوْرَاةِ دفعةً واحدةً؛ فأجَابَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَة بأنَّ هؤلاء الأنْبِيَاءِ الاثْنَي عشر، كانوا أنْبِيَاءَ وَرسُلاً، مع أنَّ واحداً منهم لم يأتِ بكتاب مثل التَّوْراةِ دفْعَةً واحِدَةً.
وإذَا كَانَ المَقْصُود من تعديده هؤلاءِ الأنْبِيَاء هذا المَعْنَى، لم يجز ذِكْر مُوسَى مَعَهُم.
وفي "يُونُس" ستُّ لغاتٍ؛ أفصحُها: واوٌ خالصةٌ، ونون مضمومة، وهي لغةُ الحجاز، وحُكِيَ كسرُ النونِ بعد الواو، وبها قرأ نافع في رواية حبَّان، وحُكِي أيضاً فتحها مع الواو، وبها قرأ النَّخعِي، وهي لغةٌ لبعض عقيل، وهاتان القراءتان جعلهما بعضهم منقولَتَيْنِ من الفعل المبنيِّ للفاعل أو للمفعول، جعل هذا الاسم مشتقاً من الأنْسِ، وإنما أبُدلَتِ الهمزةُ واواً؛ لسكونها وانضمام ما قبلها؛ ويدلُّ على ذلك مجيئه بالهمزةِ على الأصل في بعض اللغات؛ كما سيأتي، وفيه نظرٌ، لأن هذا الاسم أعجميٌّ، وحُكِي تثليث النون مع همز الواو؛ كأنهم قلبوا الواوَ همزةً؛ لانضمام ما قبلها؛ نحو: [الوافر]

1903- أحَبُّ المُؤْقِدِينَ إليَّ مُؤْسَى .....................

قال شهاب الدين: وقد تقدَّم تقريرُه، وحُكِيَ أنَّ ضمَّ النون مع الهمز لغةُ بعض بني أسدٍ، إلا أني لا أعْلَمُ أنه قُرِىءَ بشيء من لغات الهمز، هذا إذا قلنا: إن هذا الاسمَ ليْسَ منقولاً من فِعْل مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول حالةَ كَسْر النون أو فتحها، أمَّا إذا قلنا بذلك، فالهمزةُ أصليةٌ غيرُ منقلبةٍ من واو؛ لأنه مشتق من الأنس، وأمَّا مع ضمِّ النونِ، فينبغي أن يُقال بأن الهمزة بدلٌ من الواو؛ لانتفاء الفعلية مع ضم النون.
قوله تعالى: { زَبُوراً } قرأ الجمهورُ بفتح الزاي، وحمزة بضَمِّها، وفيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه جمعُ "زَبْرٍ" قال الزمخشريُّ: جمع "زَبْرٍ"، وهو الكتابُ، ولم يَذْكر غيره، يعني أنه في الأصْل مصدرٌ على فعلٍ، ثم جُمِعَ على فُعُولٍ، نحو: فَلْسٍ وفُلُوسٍ، وقَلْسٍ وقُلُوسٍ، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسيُّ في أحد التخريجَيْنِ عنه، قال أبو عَلِيٍّ: "ويحتمل أن يكون جمع زَبْرٍ وقع على المَزْبُور، كما قالوا: ضَرْبُ الأميرِ، ونَسْجُ اليَمَنِ فصار اسماً، ثم جُمِعَ على زُبُور كشُهُود وشهد؛ كما سُمِّي المكتوبُ كِتَاباً"، يعني أبو عليٍّ؛ أنه مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به؛ كما مثَّله.
والثاني: أنه جمع "زَبُورٍ" في قراءة العامة، ولكنه على حَذْفِ الزوائد، يعني حُذِفت الواوُ منه، فصار اللفظ: زَبُر، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليٍّ، قال أبو عليٍّ: "كما قالوا: ظَرِيفٌ وظُرُوفٌ، وكَرَوَان وكِرْوان، وَوَرَشَان ووِرْشَان على تقدير حذف الياء والألف"، وهذا لا بأس به؛ فإنَّ التكسير والتصغير يَجْريان غالباً مجرى واحداً، وقد رأيناهُمْ يُصَغِّرونَ بحذفِ الزوائد نحو: "زُهَيْرٍ وحُمَيْدٍ" في أزْهَرَ ومَحْمُودٍ، ويسميه النحويون "تصْغير التَّرخيم"، فكذلك التكسيرُ.
الثالث: أنه اسمٌ مفردٌ، وهو مصدرٌ جاء على فُعُول؛ كالدُّخُول، والقُعُود، والجُلُوس، قاله أبو البقاء وغيره، وفيه نظرٌ؛ من حيث إن الفُعُولَ يكون مصدراً للازم، ولا يكون للمتعدِّي إلا في ألفاظ محفوظةٍ، نحو: اللُّزُومِ والنُّهُوكِ، وزَبَرَ - كما ترى - متعدٍّ، فيضعفُ جَعْلُ الفُعُولِ مصدراً له.
قال أهل اللُّغَة: الزَّبُور الكِتَاب، وكُلُّ كِتَاب زَبُور، وهُو "فَعُولٌ" بمعنى "مَفْعُول"؛ كالرَّسُولِ والرَّكُوبِ والحَلُوب، وأصْلُه من زَبَرْتُ بمعنى كَتَبْتُ، وقد تقدَّم مَعْنَى هذه المادّة في آل عمران [آية 184].
فصل في معنى الآية
معنى { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } أي: صُحُفاً وكُتُباً مَزْبُورَة، أي: مَكْتُوبَة، وكان فيها التَّحْمِيدُ والتَّمْجِيدُ والثَّناءُ على اللَّهِ تعالى.
قال القُرْطُبيُّ -رحمه الله -: الزَّبُورُ كِتَابُ داود - عليه السلام - مائة وخمسين سُورة، لَيْسَ فيها حُكْمٌ، ولا حَلالٌ، ولا حَرَامٌ، وإنَّما هي حِكمٌ وموَاعِظٌ، والأصل في الزَّبْرِ التَّوْثِيقُ؛ فَيُقَال: بِئْرٌ مَزْبُورَة، أي: مَطْوِيَّةٌ بالحِجَارَةِ، والكِتَاب يُسَمَّى زَبُوراً؛ لقوَّة الوثِيقَةِ بِه.
وكان داوُد - عليه الصلاة والسلام - حَسَن الصَّوْتِ؛ وإذا أخَذَ في قِرَاءةِ الزَّبُورِ، اجتمع عليه الإنْسُ والجنُّ والطَّيْر والوحشُ؛ لحُسْنِ صوتِهِ، وكان مُتَواضِعاً يأكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ في الخوصِ، فكان يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، فكان أزْرَقَ العَيْنَيْن، وجَاءَ في الحديث:
"الزُّرْقَةُ في العَيْن يُمْنٌ" .
قوله - عزَّ وجلَّ -: { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ { [عَلَيْكَ] } الجمهور على نَصْب "رُسُلاً"، وفيه ثلاثةُ أوجُه:
أحدها: أنَّه مَنْصُوب على الاشْتِغَالِ؛ لوجود شُرُوطِهِ، أيْ: وقَصَصْنا رُسُلاً.
قال القُرْطُبيُّ: ومثلهُ مما أنْشد سِيبَويْهِ: [المنسرح]

1904- أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا أمْلِكُ رَأسَ البَعيرِ إنْ نَفَرَا
والذِّئْبَ أخْشَاهُ إنْ مَرَرْتُ بِهِ وَحْدِي وَأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرَا

أي: وأخْشَى الذِّئْبَ، والمعنى على حَذْف مضاف، أي: قصصنَا أخبارَهُمْ، فيكون "قَدْ قَصَصْنَاهُمْ" لا محلَّ له؛ لأنه مفسِّرٌ لذلك العاملِ المضمَرِ، ويُقَوِّي هذا الوجه قراءةُ أبَيٍّ: "وَرُسُلٌ" بالرفع في الموضعين، والنصبُ هنا أرجحُ من الرفع؛ لأن العطف على جملة فعلية، وهي: { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }.
الثاني: أنه منصوب عطفاً على معنى { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ }، أي: أرْسَلْنَا ونَبَّأنَا نُوحاً وَرُسُلاً، وعلى هذا فيكون "قَدْ قَصَصْنَاهُمْ" في محلَّ نصب؛ لأنه صفةٌ لـ "رُسُلاً".
الثالث: أنه منصوب بإضمار فعلٍ، أي: وأرسلنا رُسُلاً؛ وذلك أنَّ الآية نزلَتْ رادَّة على اليهود في إنكارهم إرسال الرسل، وإنزالَ الوحْيٍ، كما حكى اللَّهُ عنهم في قوله:
{ { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } [الأنعام: 91] والجملةٌ أيضاً في محل الصفة.
وقيل: نصب على حذف حر الجرِّ، والتقدير: كما أوحَيْنَا إلى نُوحٍ، وإلى رُسُل.
وقرأ أبيُّ: "وَرُسُلٌ" بالرفع في الموضعين، وفيه تخريجان:
أظهرهما: أنه مبتدأ وما بعده خبرُه، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ؛ لأحدِ شيئين: إمَّا العطفِ؛ كقوله: [البسيط]

1905- عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتِلَتِي فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امرُؤٌ سَمِعَا

وإما التفصيل؛ كقوله: [المتقارب]

1906- فَأقْبَلْتُ زَحْفاً على الرُّكْبَتَيْنِ فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أجُرْ

وكقوله: [الطويل]

1907- إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ

والثاني - وإليه ذهب ابن عطيَّة -: أنه ارتفع على خبر ابتداء مضمر، أي: وهم رُسُلٌ، وهذا غير واضح، والجملة بعد "رسُل" على هذا الوجه تكونُ في محلِّ رفع؛ لوقوعها صفةً للنكرة قبلها.
قوله: { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ } كالأول. وقوله: { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ } الجمهور على رفع الجلالة، وهي واضحةٌ. و"تَكْلِيماً" مصدرٌ مؤكد رافعٌ للمجاز.
قال الفرَّاء: العَرَبُ [تُسَمِّي] ما يُوصَلُ إلى الإنْسَانِ كلاماً بأيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ ولكِنْ لا تُحَقِّقُه بالمصْدَرِ، فإذا حُقِّق بالمصْدَرِ، لم يَكُنْ إلاَّ حَقِيقَةَ الكلامِ؛ كالإرادَةِ، يُقال: أراد فُلانٌ إرادَةً، يريد: حَقيقةَ الإرَادَة.
قال القُرْطُبِي: "تَكْلِيماً" يقدر مَعْنَاه بالتَّأكِيدِ، وهذا يَدُلُّ على بُطْلانِ قول من يقُولُ: خَلَق [اللَّه] لِنَفْسه كَلاَماً في شَجَرةٍ، فَسَمِعَهُ مُوسَى - [عليه السلام] -، بل هو الكلامُ الحقيقيُّ الذي يكُون به المُتَكَلِّم مُتَكَلِّماً.
قال النَّحَّاس: وأجمع النَّحوِيُّون على أنَّك إذا أكَّدْت الفِعْلَ بالمصْدَر، لم يَكُنْ مجازاً، وأنَّه لا يجُوزُ في قول الشاعر: [الرجز]

1908- امْتَلأ الْحَوْضُ وقال قَطْنِي

أن يقول: قال قولاً فكذا لمَّا قال: "تَكْلِيماً" وجَبَ أن يكُون كلاماً على الحَقِيقَةِ.
ومعنى الآية: أنَّ الله - تعالى - ذكر هَؤلاء الأنْبِيَاء والرُّسُل [وخص مُوسَى] بالتكْلِيم مَعَهُ ولم يَلْزَم مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى عليه السلام بهَذَا التَّشْرِيف، الطَّعْن في نُبُوة الأنْبِيَاء - عليهم السلام -، فكَذَلِك لا يلزم من إنْزَالُ التَّوْرَاة دفْعَةً واحِدَةً الطَّعْن فيمن أُنْزِل عليه الكِتَاب مُفَصَّلاً.
وقرأ إبْراهيم ويَحْيَى بن وَثَّاب: بنَصْبِ الجلالة.
وقال بعضُهُم: { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ [مُوسَىٰ تَكْلِيماً] } معناه: وجَرَحَ اللَّهُ مُوسَى بأظْفَار المحن ومَخَالِب الفَتن، وهذا تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ.
وقد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز؛ كقول هند بنت النعمانِ بن بشير في زوْجِها رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ وزيرِ عبد الملِكِ بْنِ مَرْوَانَ: [الطويل]

1909- بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنْكَرَ جِلْدَهُ وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ

تقول: إنَّ زوْجَها رَوْحاً قد بكَى ثيابُ الخَزِّ مِنْ لُبْسِهِ؛ لأنه ليس من أهل الخَزِّ، وكذلك صرخَتْ صُرَاخاً من جُذَام - وهي قبيلة رَوحٍ - ثيابُ المطارِفِ، تعني: أنهم ليسوا من أهل تلك الثياب، فقولها: "عَجَّتِ المَطَارِفُ" مجازٌ؛ لأن الثياب لا تعجُّ، ثم رَشحَتْهُ بقوله عَجِيجاً، وقال ثَعْلَبٌ: لولا التأكيد بالمصدر، لجاز أن يكونَ كما تقول: "كَلَّمْتُ لك فُلاناً"، أي: أرسلْتُ إليه، أو كتبتُ له رُقْعةً.
قوله تعالى: { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ }: فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه بدل من "رُسُلاً" الأول في قراءة الجمهور، وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بنصبه على التكْريرِ، كذا فهم عنه أبو حيان.
الثاني: أنه منصوبٌ على الحال الموطِّئة؛ كقولك: "مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلاً صَالِحاً"، ومعنى الموطِّئة، أي: أنَّها ليست مقصودةً، إنما المقصودُ صفتُها؛ ألا ترى أن الرجوليَّة مفهومة من قولك "بِزَيْدٍ"، وإنما المقصودُ وصفه بالصلاحية.
الثالث: أنه نُصِبَ بإضمار فعل، أي: أرْسَلْنا رُسُلاً.
الرابع: أنه منصوبٌ على المَدْح، قدَّره أبو البقاء بـ "أعني"، وكان ينبغي أن يقدِّره فعلاً دالاًّ على المدْح، نحو: "أمْدَح"، وقد رجَّح الزمخشريُّ هذا الأخير، فقال: "والأوجَهُ أن ينتصِبَ "رُسُلاً" على المدح".
قوله: "لِئَلاَّ" هذه لام كَيْ، وتتعلَّقُ بـ "مُنْذِرِينَ" على المختار عند البصريِّين، وبـ "مُبَشِّرِينَ" على المختار عند الكوفيِّين؛ فإن المسألةَ من التنازُع، ولو كان من إعمالِ الأول، لأضمرَ في الثاني من غير حذفٍ، فكان يُقال: مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ [له] لئلا، ولم يَقُل كذلك، فدلَّ على مذهب البصريِّين، وله في القرآن نظائرُ تقدَّم منها جملة صالحة، وقيل: اللامُ تتعلَّقُ بمحذوف، أي: أرسلْنَاهُم لذلك، و"حُجَّةٌ" اسمُ "كانَ"، وفي الخبر وجهان:
أحدهما: هو "عَلَى الله" و "لِلنَّاسِ" حال.
والثاني: أن الخبر "للنَّاسِ" و "عَلَى الله" حال، ويجوز أن يتعلَّق كُلٌّ من الجارِّ والمجرور بما تعلَّق به الآخرُ، إذا جعلناه خبراً، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ على الله بـ "حُجَّة"، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ معمول المصدر لا يتقدم عليه، و"بَعْدَ الرُّسُلِ" متعلقٌ بـ "حُجَّة"، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ لـ "حُجَّة"؛ لأنَّ ظروف الزمان تُوصفُ بها الأحداثُ؛ كما يخْبر بها عنها؛ نحو: "القِتَالُ يَوْمُ الجُمُعَةِ".
فصل في جواب الآية عن شبهة اليهود
هذه الآيةُ جوابٌ عن شُبْهَة اليهُودِ، وتقريرُه: أن المقْصُود من بَعْثَةِ الرُّسُلِ أن يُبَشِّرُوا ويُنْذِرُوا، وهذا المَقْصُود حَاصِلٌ سواءٌ كان الكِتَاب نَازِلاً دَفْعَةً واحدةً أو مُنَجَّماً، ولا يَخْتَلِفُ هذا الغرضُ بِنزُول الكِتَابِ مُنَجَّماً أو دفعةً واحدةً.
بل لو قِيلَ: إن إنْزَال الكِتَاب مُنَجَّماً مُفَرَّقاً أقْرَبُ إلى المصْلَحَة، لكان أوْلَى؛ لأن الكِتَاب إذا نَزَل دَفْعَةً واحِدَة، كثُرت التَّكَالِيفُ على المكَلَّفِ، فيَثْقُل فِعْلُهَا؛ ولهذا السَّبَب أخَذ قومُ مُوسَى - عليه السلام - على التمرُّدِ، ولم يَقْبَلُوا تلك التَّكَالِيف.
أمَّا إذا نَزَل الكتابُ مُنَجَّماً مُفَرَّقاً، سَهُل قُبُولُه للتَّدرِيجِ، فحينئذٍ يَحْصُل الانْقِيَادُ والطَّاعةُ من القَوْمِ، فكان اقْتِرَاحُ اليَهُودِ إنْزَالَ الكِتَابِ دفعَةً واحِدَة اقْتِراحاً فاسِداً
ثم قال: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } يعني: هذا الذي تَطْلُبُونَه من الرسول أمْر هَيِّنٌ في القُدْرَةِ، وإنما طَلَبْتُمُوه على سَبِيلِ اللِّجَاجِ، وهو - تعالى - عَزِيزٌ، وعِزَّتُهُ تَقْتَضِي ألا يُجَابَ المُتَعَنِّتُ إلى مَطْلُوبِه، وكذَلِك حِكْمَتُه تَقْتَضِي هذا الامْتِنَاع؛ لِعلْمِهِ - تعالى - بأنَّهُ لو فَعلَ ذلك لبَقَوْا مُصرِّين على اللِّجَاج؛ لأنه - تعالى - أعْطَى مُوسى - [عليه الصلاة والسلام] - هذا التَّشْرِيف، ومع ذلك أصَرُّوا على المُكَابَرة واللِّجَاج.
فصل
احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنّ معرِفَة اللَّهِ - تعالى - لا تثبت إلا بالسَّمْع؛ لأن قوله: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } يدلُّ على أنَّ قَبْل البَعْثَةِ يكُونُ للنَّاسِ حُجَّة في تَرْك الطَّاعَاتِ، ويؤيِّدُه قوله - تعالى -:
{ { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وقوله: { { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } [طه: 134].
فصل شبهة للمعتزلة وردها
قالت المعتزلة: دلَّت هذه الآيةُ على أن العَبْد قد يَحتَجُّ على الربِّ - سبحانه وتعالى - وأنَّ الذي يَقُولُه أهْل السُّنَّةِ من أنَّهُ تعالى لا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ في شَيْءٍ، وأنَّه يَفْعَلُ ما يَشَاءُ كما شَاءَ لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأن قوله: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } يَقْتَضِي أنَّ لَهُم حُجَّة على الله قَبْلَ الرُّسُل، وذلك يُبْطِل قول أهْلِ السُّنَّة.
والجواب: أن المُرادَ { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ } أي: فيما يُشْبِهُ الحُجَّة فِيمَا بَيْنَكُم.
فصل شبهة للمعتزلة وردها
قالت المُعْتَزِلَةُ: دلَّت الآيةُ على أنَّ تكْلِيفَ ما لا يُطَاق غَيْر جَائِزٍ؛ لأن عدم إرْسَالِ الرُّسُلِ إذا كان يَصْلُح عُذْراً، فبأن يَكُون عدمُ المُكْنَةِ والقُدْرَة صَالِحاً لأنْ يكُونَ عُذْراً أولى.
والجواب: بالمُعَارَضَةِ بالعِلْمِ.