التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١٧٠
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

قوله - تعالى -: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ } الآية لما أجَابَ عن شُبْهَة اليَهُودِ، [و] بين فَسَادَ طِرِيقهِم، ذَكَر خِطَاباً عَامّاً يَعُمُّهُم ويَعُمّ غَيْرُهم في الدَّعْوةِ إلى الإسلامِ.
قوله سبحانه: { بِٱلْحَقِّ }: فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّق بمحذوفٍ، والباءُ للحال، أي: جاءكُمُ الرسولُ ملتبساً بالحقِّ، أو متكلِّماً به.
والثاني: أنه متعلقٌ بنفس "جَاءَكُمْ"، أي: جاءكم بسبب إقامةِ الحقِّ، والمراد بهذا الحق القرآنُ، وقيل: الدعوة إلى عبادة الله، والإعراض عن غيره، و"مِنْ ربِّكُمْ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بمحذوف؛ على أنه حال أيضاً من "الحَقِّ".
والثاني: أنه متعلقٌ بـ "جاء"، أي: جاء من عند الله، أي: أنه مبعوثٌ لا متقوَّلٌ.
قوله تعالى: { فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } في نصبه أربعة أوجه:
أحدها - وهو مذهب الخليل وسيبويه -: أنه منصوب بفعلٍ محذوفٍ واجب الإضمار، تقديره: وأتُوا خيراً لكم؛ لأنه لمَّا أمرهم بالإيمان فهو يريدُ إخراجهم من أمرٍ، وإدخالهم فيما هو خيرٌ منه، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره؛ قال: "وذلك أنه لمَّا بعثَهم على الإيمان وعلى الانتهاءِ عن التثْلِيثِ، علم أنه يَحْمِلُهم على أمر، فقال: خيراً لكُمْ، أي: اقصِدوا وأتُوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكُفْر والتثليث".
الثاني - وهو مذهب الفراء -: أنه نعت لمصْدر محذوف، أي: فآمنوا إيماناً خيراً لكم، وفيه نظر؛ من حيث أنه يُفْهِمُ أنَّ الإيمان منقسم إلى خير وغيره، وإلاَّ لم يكنْ لتقييده بالصفةِ فائدةٌ، وقد يُقالُ: إنه قد يكون لا يقولُ بمفهوم الصفة؛ وأيضاً: فإن الصفة قد تأتي للتأكيد وغير ذلك.
الثالث - وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد -: أنه منصوب على خبر "كَانَ" المضمرة، تقديرُه: يكنِ الإيمانُ خيراً، وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهب؛ بأنَّ "كَانَ" لا تُحْذَف مع اسمها دون خبرها، إلا فيما لا بدّ له منه، ويزيد ذلك ضعفاً أنَّ "يَكُن" المقدرة جوابُ شرطٍ محذوف، فيصيرُ المحذوفَ الشرطُ وجوابُه، يعني: أنَّ التقديرَ: إنْ تؤمنُوا، يَكُن الإيمانُ خيراً، فحذَفْتَ الشرط، وهو "إنْ تُؤمِنُوا" وجوابه، وهو "يَكُن الإيمَانُ" وأبقيتَ معمولَ الجواب، وهو "خَيْراً"، وقد يقال: إنه لا يحتاج إلى إضمار شرطٍ صناعيٍّ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّا ندَّعِي أن الجزْم الذي في "يَكُنِ" المقدرةِ، إنما هو بنفس جملة الأمر التي قبله، وهو قوله: "فآمِنُوا" من غير تقدير حرفِ شرطِ، ولا فعلٍ له، وهو الصحيحُ في الأجوبة الواقعة لأحد الأشياء السبعة، تقول: "قُمْ أكْرِمْكَ"، فـ "أكْرِمْكَ" جواب مجزومٌ بنفس "قُمْ"؛ لتضمُّن هذا الطلب معنى الشرط من غير تقدير شرط صناعيٍّ.
الرابع - والظاهرُ فساده -: أنه منصوبٌ على الحال، نقله مكي عن بعض الكوفيِّين، قال: "وهُوَ بعيدٌ"، ونقله أبو البقاء أيضاً، ولم يَعْزُه.
"وإنْ تَكْفُرُوا" فإنَّ الله غَنِيٌّ عن إيمَانِكُم؛ لأنه مَالِك السَّمَاوات والأرضِ وخَالِقُهَا، ومن كان كذلِك، لم يكن مُحْتَاجاً إلى شَيْءٍ، ويكون التَّقْدِير فإنَّ للَّه ما فِي السَّماوات ومَا فِي الأرْضِ، ومن كان كَذَلِك، قَادِراً على إنْزَالِ العَذَابِ عَلَيْكُم لو كَفَرْتُم، أو يكون المرادُ: إن كَفَرْتُم، فلَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ والأرْضِ، ومن كان كذلِك فله عَبيدٌ يَعْبُدُونَهُ ويَنْقَادُون لأمْرِهِ، فيُجَازِي كُلاًّ بِفِعْلِه.