التفاسير

< >
عرض

لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً
١٧٢
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
١٧٣
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } الآية لمَّا أقام الحُجَّة القَاطِعَة على أنَّ عيسى عَبْدُ الله، لا يَجُوز أن يكُون ابْناً لَهُ، أشَارَ بَعْدَه إلى حِكَايَةِ شُبْهَتِهِم، وأجَابَ عَنْهَا؛ لأنَّ الشُّبْهَة التي عَوَّلُوا عَلَيْها في إثْبَاتِ أنَّهُ ابن اللَّهِ؛ هو [أنَّه] كان يُخْبِرُ عن الغيبيّات، ويأتي بِخَوارقِ العاداتِ من الإبْرَاء والإحْيَاء، فكأنَّهُ - تعالى - قال: { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ } بسبب القَدْرِ من العِلْم والقُدْرَة عن عِبَادةِ الله - [سبحانه] وتعالى -، فإن الملائِكَة المقَرَّبينَ أعْلَى حَالاً مِنْهُ في اَلقُدْرَة؛ لأن ثَمَانِيةً منهم حَمَلةُ العَرْشِ على عَظَمَتِهِ، ثم [إنّ] الملائكة مع كمالهم في العُلُوم، لمْ يَسْتَنْكِفُوا عن عُبُودِيَّة الله، فكيف يَسْتَنْكِفُ المَسِيحُ عن عُبُوديَّته بسبب هذا القَدْرِ القَلِيلِ الذي كان مَعَهُ من العِلْمِ والقُدْرَة.
والاسْتنْكَافُ: استفعالٌ من النَّكْفِ، والنَّكْفُ: أن يُقال [له] سوء، ومنه: "وما عليه في هذا الأمْرِ نَكْفٌ ولا وَكْفٌ"، قال أبو العباس: "واسْتَفْعَلَ هنا بمعنى دفع النَّكْفَ عَنْه"، وقال غيره: "هو الأنَفَةُ والتَّرفُّع"، ومنه: "نَكَفْتُ الدَّمْعَ بإصْبَعِي"، إذا منعته من الجَرْي على خَدِّك، قال: [الطويل]

1910- فبَانُوا فُلُولاً ما تَذَكَّرُ مِنْهُمُ مِنَ الحِلْفِ لَمْ يُنْكَفْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعُ

فصل
رُوِيَ أن وَفْدَ نَجْرَان قالُوا: يا مُحَمَّد، إنك تَعِيبُ صَاحِبَنَا، فتقول: إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"ليْسَ بعارٍ لعيسى - عليه السلام - أنْ يكُوْنَ عَبْداً لِلَّهِ" فنزلَت هذه الآية.
وقرأ عَلِيٌّ: "عُبَيْداً" على التَّصْغِير، وهو مُنَاسِبٌ للمَقَام، وقرأ الجمهورُ "أن يكُون عَبْداً لِلَّهِ" بفتح همزة "أنْ"، [فهوُ في موضعِ نَصْبٍ، وقرأ الحسن: "إنْ" بكَسْر الهمزة على أنَّها نَفيٌ بمعنى]: ما يكون له ولدٌ، فينبغي رفع "يكونُ"، ولم يذكره الرواة؛ نقله القرطبيّ.
وقوله تعالى: { وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ } عطف على "المَسِيح"، أي: ولَنْ يَسْتَنْكِفَ الملائكةُ أن يكُونُوا عَبيداً لله، وقال أبو حيان ما نصُّه: "وفي الكلام حَذْفٌ، التقدير: ولا الملائكةُ المقرَّبون أن يكونُوا عبيداً لله، فإن ضُمِّن "عَبْداً" معنى "مِلْكاً لله"، لم يَحْتَجْ إلى هذا التقدير، ويكونُ إذ ذاك { وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ } من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لُحِظَ في "عَبْد" معنى الوَحْدَة، فإن قوله: { وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ } يكون [من] عطف الجملِ؛ لاختلاف الخبر، وإنْ لُحِظَ في قوله: { وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ } معنى: "ولا كلُّ واحدٍ مِنَ الملائِكَةِ" كان من باب عطف المفردات"، وقال الزمخشريُّ: "فإن قلتَ: علام عُطِفَ "والمَلاَئِكَةُ"؟ قلت: إمَّا أن يُعْطَفَ على "المَسِيحُ"، أو اسم "يَكُونُ"، أو على المستتر في "عَبْداً" لما فيه من معنى الوصْف؛ لدلالته على العبادة، وقولك: "مَرَرْتُ بِرَجُلٍ عَبْدٍ أبُوهُ" فالعطفُ على المسيحِ هو الظاهرُ؛ لأداء غيره إلى ما فيه بعضُ انحرافٍ عن الغرضِ، وهو أن المسيحَ لا يأنَفُ أن يكون هو ولا من فَوقَهُ موصوفين بالعبودية، أو أن يعبُدَ الله هو ومن فوقه"، قال أبو حيان: "والانحراف عن الغرضِ الذي أشارَ إليه كونُ الاستنكَافِ يكون مختصًّا بالمسيحِ، والمعْنَى التامُّ إشراكُ الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكَافِ عن العبوديَّة، ويظهرُ أيضاً مرجوحيَّةُ الوجهين من وجه دخُول "لاَ"؛ إذ لو أُريدَ العطفُ على الضمير في "يكُون" أو في "عَبْداً" لم تَدْخُل "لا"، بل كان يكون التركيبُ بدونها، تقول: "ما يريدُ زيدٌ أن يكُونَ هُو وأبُوهُ قَائِمَيْن" و"ما يُريدُ زيدٌ أنْ يَصْطَلِحَ هُوَ وعَمْرٌو"، فهذان التركيبان لَيْسَا من مَظَنَّةِ دخولِ لا، وإن وُجد منه شيءٌ، أوِّل". انتهى، فتحصَّل في رفع "المَلاَئِكَةُ" ثلاثة أوجه، أوجَهُهَا الأوَّل.
فصل
اسْتَدَلَّ الجُمهور بهذه الآية: على أنَّ الملكَ أفْضَلُ من البَشَر، وقد تقدَّم الكلام عَلَيْه، في البقرة [آية 34].
وقال ابن الخطيب: والذي نقُولُه هَهُنَا: إنَّا نُسَلِّم أنَّ اطِّلاع الملائِكَة على المُغَيِّبَاتِ أكْثَرُ من اطلاع البَشَرِ عليهما، ونُسَلِّم أن قُدْرَة الملائِكَة على التَّصرُّفِ في هذا العَالم أشَدُّ من قُدْرة البَشَر، إنما النِّزاعُ في أنَّ ثوابَ طاعَاتِ الملائِكَة أكْثَرُ، أمْ ثوابُ طاعَاتِ البَشَرِ وهذه الآيَةُ لا تَدُلُّ على ذلك؛ وذلك أن النَّصَارَى إنَّما أثْبَتُوا إلهيَّة عِيسَى؛ لأنه أخْبَر عن الغَيْب، وأتى بخَوَارِقِ العَادَاتِ، فإيرادُ الملائِكَة لأجْلِ إبْطَال هذه الشُّبْهَة، إنما يَسْتَقِيم إذا كانت الملائِكَةُ أقْوَى حالاً في هذا العَالَمِ، وفي هذه القُدْرَة من البَشَرِ، ونحن نَقُول بمُوجبهِ.
فأما أن يُقَالَ: المُرادُ من الآية تَفْضِيل الملائِكَة على المَسيحِ في كَثْرَةِ الثَّوَابِ على الطَّاعَاتِ، فذلك ممَّا لا يُنَاسِب هذا الموضعَ، ولا يَليقُ به.
فظهر أنَّ هذا الاستدْلاَل إنَّما قَوِي في الأوْهَام؛ لأن النَّاسَ ما لخّصوا مَحَلَّ النِّزَاع.
وأجاب البغوي عن استدلالهم بهذه الآية؛ فقال: ولا حُجَّة لهم فِيهِ؛ لأنه لم يَقُلْ ذَلِك رَفْعاً لمقامِهِم على مَقَامِ البَشَرِ، بل رَدًّا على الذين يَقُولُون: الملاَئِكَة آلِهَةٌ، لما ردَّ على النَّصَارَى قولهم: المَسِيحُ ابْنُ اللَّه، وقال ردّاً على النَّصارَى بزَعْمِهِم؛ فإنَّهُم يقُولُون بتَفْضِيل الملائِكَة، وهذه الآيَةُ تدُلُّ على أنَّ طبقات المَلاَئكة مُخْتَلِفةٌ؛ لقوله - تعالى -: { وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ }.
قوله تعالى { فَسَيَحْشُرُهُمْ } الفاءُ يجوز أن تكون جواباً للشَّرْط في قوله: { وَمَن يَسْتَنْكِفْ }، فإن قيل: جوابُ "إن" الشرطية وأخواتها غير "إذا" لا بدَّ أن يكون محتملاً للوقُوعِ وعدمه، وحشرُهُمْ إليه جميعاً لا بُدَّ منه، فكيف وقعَ جَواباً لها؟ فقيل في جوابه وجهان:
أصحهما: أن هذا الكلام تضمَّن الوعد والوعيد؛ لأنَّ حَشْرَهُمْ يقتضي جزاءَهم بالثوابِ أو العقاب، ويَدُلُّ عليه التفصيلُ الذي بعده في قوله: "فَأَمَّا الذِينَ" إلى آخره، فيكونُ التقديرُ: ومن يَسْتَنكِفْ عن عبادته ويَسْتَكْبِرْ، فيعذبُهُ عند حَشْرِهِ إليه، ومن لم يستنكفْ ولم يستكبر، فيثيبه.
والثاني: أنَّ الجوابَ محذوف، أي: فيجازيه، ثم أخبر بقوله: { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً }، وليس بالبيِّن، وهذا الموضوعُ محتملٌ أن يكون مِمَّا حُمِلَ على لفظةِ "من" تارة في قوله: "يَسْتَنْكِف" [و"يَسْتَكْبِر"] فذلك أفرد الضمير، وعلى معناها أخرى في قوله: "فَسَيحْشُرُهُم" ولذلك جمعهُ، ويحتمل أنه أعاد الضمير في "فَسَيحْشُرُهُم" على "مَنْ" وغيرها، فيندرجُ المستنكفُ في ذلك، ويكون الرابطُ لهذه الجملةِ باسم الشرط العمومَ المشارَ إليه، وقيل: بل حَذَفَ معطوفاً لفَهْم المعنى، والتقديرُ: فسيحشُرُهُمْ، أي: المُسْتنكفينَ وغيرَهُمْ، كقوله:
{ { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } } [النحل: 81]، أي: والبَرْدَ.
و"جَميعاً" حالٌ، أو تأكيد عند مَنْ جعلها كـ "كُلّ" وهو الصحيح، وقرأ الحسن: "فَسَنحْشُرهُمْ" بنونِ العظمة، وتخفيف باء "فَيُعَذِّبُهُمْ"، وقرئ "فَسَيَحْشِرُهُمْ" بكسر الشين، وهي لغةٌ في مضارع "حَشَرَ".
وقوله تعالى: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ }: قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها، ولكن هنا سؤالٌ حسنٌ قاله الزمخشريُّ وهو: "فإن قلت: التفصيل غير مطابقٍ للمفصَّلِ؛ لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصَّلُ على فريق واحد، قلتُ: هو مثلُ قولك: "جَمَعَ الإمَامُ الخوارجَ: فمن لم يخرجْ عليه، كساه حُلَّةً، ومن خَرَجَ عليه، نَكَّلَ به" وصحةُ ذلك؛ لوجهين:
أحدهما: أن يحذف ذكرُ أحد الفريقين؛ لدلالةِ التفصيل عليه؛ ولأنَّ ذكرَ أحدهما يدلُّ على ذكر الثاني؛ كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عَقِيبَ هذا:{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّه واعْتَصَمُوا به }. والثاني: وهو أن الإحسانَ إلى غيرهم مما يَغُمُّهُم؛ فكان داخلاً في جملة التنكيلِ بهم، فكأنه قيل: ومن يَسْتَنْكِف عن عبادته ويَسْتكبرْ فسيعذبُهُم بالحَسْرة، إذا رأوْا أجُورَ العاملين، وبما يصيبُهُم من عذاب الله. انتهى، يعني بالتفصيل قوله: "فأمَّا" و"أمَّا"، وقد اشتمل على فريقين، أي: المثابين والمعاقبين، وبالمفصَّل قوله قبل ذلك: "وَمَن يَسْتَنْكِفْ"، ولم يشتمل إلا على فريقٍ واحدٍ هم المعاقَبُون.
فصل
بيَّن ثواب الَّذِين آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَات أنه يُوَفِّيهم أجُورَهم، ويزيدهُم من فَضْلِه من التَّضعِيف ما لا عيْنٌ رأتْ، ولا أذنٌ سَمِعَت، ولا خطر على قَلْب بَشَر.
قوله: { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ } عن عبادته { فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }.
وقدم ثواب المُؤمنين على عقاب المسْتَنْكِفِ لأنَّهم إذا رَأوْا ثواب المُطيعين، ثم شَاهَدُوا بعده عقاب أنفسهم، كان ذلك أعْظَم في الحسرة.