التفاسير

< >
عرض

يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٦
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

للنَّاس في مثل التركيب مذاهب، فمذهبُ البصريين أنَّ مفعول "يريدُ" محذوف تقديره يريد اللَّهُ تحريم ما حرَّم [عليكم] وتحليل ما حلَّل، وتشريعَ ما تقدَّم لأجلِ التَّبيين لكم، ونسبه بعضهم لسيبويه، فتملَّقُ الإرادة غير التّبيين وما عطف عليه، وَإِنَّما تأوَّلوهُ بذلك؛ لئلاَّ يلزم تعدّي الفعل إلى مفعوله المُتَأَخّر عنه باللاَّمِ، وهو ممتنع وإلى إضمار "إن" بعد اللام الزائدة.
والمذهبُ الثَّانِي - ويُعْزَى أيضاً لبعض البصريّين -: أن يُقَدَّرَ الفعل الَّذي قبل اللام بمصدر في محلِّ رفع بالابتداء، والجارّ بعده خبره، فيقدر: يريدُ اللَّهُ ليبيِّن إرادة اللَّهَ تعالى للتّبيين وقوله: [شعر] [الطويل]

1789- أُرِيدُ لأنْسى ذِكْرَهَا [فَكَأَنَّمَا تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبيلِ]

أي: إرادتي، وقوله تعالى { { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ } [الأنعام: 71] أي: أُمِرْنا بما أُمِرْنَا لنسلم، وفي هذا القول تأويل الفعل بمصدر، من غير حرف مصدر، وهو ضعيفٌ نحو: "تَسْمَعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه" قالوا: تقديره: أن تسمع فلما حذف "أن" رفعِ الفعل وهو من تأويل المصدر لأجل الحرف المُقدَّر [فكذلك هذا] فلام الجرِّ على الأوَّل في محلِّ نصب لتعلقها بـ "يُريدُ" وعلى الثَّاني في محلِّ رفع لوقوعها خبراً.
الثالث: وهو مذهبُ الكوفيّين أنَّ اللامَ هي النَّاصبة بنفسها من غير إضمار "أنْ"، وما بعدها مفعول الإرادة، لأنَّها قد تُقَامُ اللامُ مقام "أنْ" في: أردت وأمرت، فيقال: أردتُ أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك لتقُومَ، وأمرتُكَ أن تَقُومَ، قال تعالى:
{ { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ } [الصف: 8]، وقال في موضع آخر:[ { { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ } ] [التوبة: 32]. وقال: { { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأنعام: 71] وفي موضع آخر: { { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ } [غافر: 66] وقال: { { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } [الشورى: 15] أي: أنْ أعدل بينكم، ومنع البصريُّون ذلك؛ لأنَّ اللام ثبت بها الجرُّ في الأسماء، فلا يجوزُ أن ينصب بها فالنَّصب عندهم بإضمار "أنْ" كما تَقَدَّمَ.
الرَّابِعُ، وإليه ذهب الزَّمخشريُّ، وأبُو البقاءِ: أنَّ اللامَ زائدةٌ، و "أنْ" مضمرة بعدها، والتَّبْيينُ مفعول [الإرادة.
قال الزمخشري: { يُرِيدُ ٱللَّهُ } يريدُ اللَّهُ أن يُبيِّنَ، فزيدت اللامُ مؤكدة لإرادة التبيين، كَمَا] زيدت في "لا أبا لك" لتأكيد إضافة الأبِ وهذا خارج عن أقوال البَصْرِيِّيِنَ، والكوفيين، وفيه أن "أنْ" تضمر بعد اللام الزَّائدة، وهي لا تضمر فيما نصَّ النحويون بعد لام إلاَّ وتلك اللامُ للتعليل، أو للجُحُودِ.
وقال بعضهم: اللامُ "لام" العاقبة كهي في قوله تعالى
{ { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } ] [القصص: 8] ولم يذكر مفعل التبيين، بل حذفه للعلم به فقدَّره بعضهم: ليبيِّن لكم ما يقرّ ربّكم، ومنه قول بعضهم إنَّ الصبر عن نكاح الإماء خير.
فالأوَّلُ قاله عطاء.
والثَّاني قاله الكلبيُّ. وبعضهم: ما فصَّلَ من الشَّرائع، وبعضهم أمر دينكم، وهي متقاربة، ويجوز في الآية وجه آخر [حَسَنٌ]؛ وهو أن تكون المسألَةُ من باب الإعمال تنازع: "يبيِّن" و "يَهدي" في { سنن الذين من قبلكم }، لأنَّ كلاَّ منهما يطلبه من جهة المعنى، وتكونُ المسألة من إعمال الثَّاني، وحذف الضَّمير من الأوَّلِ تقديره: ليبينها لكم ويهديكم سُننَ الَّذين من قبلكم.
والسُّنَّةُ: الطَّريقَةُ؛ لأنَّ المفسِّرين نقلوا أن كلَّ ما بَيَّن لنا تحريمه وتحليله من النِّساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك أيضاً في الأمم السَّالفةِ، أو أنه بين لَكُمْ المصالح؛ لأنَّ الشَّرَائِعَ، وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنَّها متَّفِقَةٌ في المصلحة.
فصل
قال بعضُ المفسَّرينَ { لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ } معناهما واحد وقال آخرون هذا ضعيفٌ.
والحقُّ أنَّ قوله: { لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي: يميِّزَ الحلالَ من الحرامِ، والحسن من القبيح.
وقوله تعالى: { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي: أن الذي بيَّن تحريمه، وتحليله لنا في الآيات المتقدّمة وقد كان كذلك في شرائع [الإسْلام] من قبلنا، أو يكون المراد منه { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [في] بيان ما لكم فيه من المصلحة [فإنَّ الشَّرائعَ، وإن اختلفت في نفسها إلاَّ أنَّهَا متفقة في المصالح].
قوله: { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } قال القاضي: معناه أنَّهُ تعالى كما أراد منّا نفس الطّاعة، فلا جَرَمَ بيَّنَها وأزال الشُّبْهَةَ عنها وإذا وقع التَّقصيرُ والتَّفريط منَّا؛ فيريد أن يتوبَ علينا؛ لأنَّ المكلف قد يطيع فيستحق الثَّوابَ، وقد يعصي فيحْتَاج إلى التلافي في التَّوبَةِ وفي التَّوْبَةِ وفي الآية إشكالٌ، وهو أنَّ الحَقَّ إمَّا أن يكون قول أهل السُّنَّةِ [من أنَّ فعل العبدِ] مخلوقٌ للَّهِ [وَإمَّا أن الحقَّ قولُ المعتزلة: من أنَّ فعلَ العبدِ ليسَ مخلوق اللَّهِ تعالى؛ والآيةُ مُشْكَلَةٌ على القَوْلَيْنِ] أمَّا على الأوَّلِ [فلأنّ] كلِّ مَا يريده الله تعالى [فَإنَّهُ] يحصلُ، فإذا أرَادَ أن يتُوبَ علينا وأحبَّ أن تحصل التَّوْبَةَ لكلنا، ومعلومٌ أنَّهُ ليس لذلك، وأمَّا على القول الثَّاني: فهو تعالى يريدُ مِنَّا أن نتُوبَ باختيارنا، وفعلنا وقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [ظاهره] مشعر بأنَّهُ تعالى هو الَّذي يخلق التَّوْبَةَ فينا.
فالجوابُ أن قوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } صريحٌ في أنَّهُ تعالى هو الذي يقبلُ التَّوْبَةَ فينا والعقل يؤكِّدُهُ؛ لأنَّ التَّوْبَةَ عبارةٌ عن النَّدمِ في الماضي، والعزم على التَّرْكِ في المستقبل، والنَّدم والعزم من باب الإرادَاتِ، والإرادةُ لا يمكن إرادتها وإلا لزم التَّسلسل؛ فإذن الإرادةُ يمتنعُ أن تكونَ فعل الإنسان فعلمنا أن هذا النَّدم والعزم لا يحصلان إلا بتخليق اللَّهِ تعالى فَدَلَّ البرهانُ العقليُّ على صحَّةِ ما أشعر به القرآن، وهو أنَّهُ تعالى [هو] الذي يتوبُ علينا.
وإن قالوا: لو تاب عليْنَا لحصلتْ هذه التَّوْبَةُ [لهم فزاد هذا الإشكالُ واللَّهُ أعلم].
فنقولُ: قوله تعالى: { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } خطابٌ مع الأمَّةِ، وقد تابَ عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيَّات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التَّوْبَةِ لهم فَزَالَ الإشكالُ واللَّهُ أعلم.
[ثم قال { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي:] [عليم] بمصالح عبادة حكيم في أمر دينهم ودنياهم وحكيم فيما دبَّرَ من أمورهم.