التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً
٣٣
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

"جعلنا" فيه سِتَّةُ أوْجُهٍ، وذلك يَسْتَدْعِي مقدِّمَةً قبله، وَهُوَ أنّ "كُلّ" لا بدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تُضَافُ إليْهِ.
قال القُرْطُبِيُّ: "كُلّ" في كلام العربِ مَعْناهَا: الإحَاطَةُ والعموم، فإذا جَاءَتْ مُفْرَدَة، فلا بدَّ وأن يكُونَ في الكَلاَمِ حَذْفٌ عند جميع النحويين".
واختلفوا في تقديرهِ: فقيل تقدِيرُهُ: ولكلِّ إنسان.
وقيل: لِكُلِّ مال، وقيل: لِكُلِّ قوم، فإنْ كانَ التَّقْديرُ: لكل إنسان، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدُهَا: وَلِكُلِّ إنسانٍ موروثٍ جعلنا موالي، أي: وُرَّاثاً مِمَّا تَرَكَ، ففي "تَرَكَ" ضميرٌ عائد على "كُلّ"، وهنا تمّ الكلام.
وقيل: تَقْدِيرُهُ: ويتعلق "مِمَّا تَرَك" بـ "مَوَالي" لما فيه من معنى الوراثة، و"موالي": مَفْعُولٌ أوَّ لـ "جَعَلَ"، و"جَعَلَ" بمعنى: "صَيَّر"، و"لِكُلّ" جار ومجرور هو المفعول الثَّاني، قُدِّم على عامِلِهِ، ويرتفع "الوِلْدَان" على خبر مبتدأ محذوف، أو بفعل مقدّر، أي: يرثون مما [ترك]، كأنه قيل: ومَنْ الوارثُ؟ فقيل: هم الوَالِدَان والأقْرَبُون، والأصل: "وجعلنا لكل ميت وراثاً يرثون مما تركه هم الوالدان والأقربون".
والثَّانِي: أنَّ التَّقديرَ: ولكلِّ إنْسَانٍ موروث، جعلنا وراثاً مما ترك ذلك الإنسان. ثُمَّ بين الإنْسَان المضاف إليه "كُلّ" بقوله: { ٱلْوَالِدَانِ }، كأنه قيل: ومن هو هَذَا الإنسان الموروث؟ فقيل: الوالدان والأقربُونَ، والإعراب كما تقدَّمَ في الوَجْهِ قَبْلَهُ، إنَّمَا الفرقُ بينهما أنَّ الوالِدَيْنِ في الأوَّلِ وارثون، وفي الثانِي مورثون، وعلى هذيْنِ الوجْهَيْنِ فالكلامُ جُمْلَتَانِ، ولا ضميرَ، محذُوف في "جعلنا"، و"موالي" مفعول أول، و"لكل" مفعول ثان.
الثَّالِثُ: أن يكُونَ التَّقدِيرُ: ولكل إنسان وارِث ممَّن تركُ الولِدَانِ والأقْرَبُون جعلنا موالي، أي: موروثين، فَيُراد بالمَولى: الموْرُوثُ، ويرتفع "الوالدان" بـ: "ترك"، وتكون "مَا" بمعنى "مَنْ"، والجارّ، والمجرورُ صِفَةٌ للمضاف إليه "كُلّ"، والكلامُ على هذا جُمْلَةٌ واحِدَةٌ، وفي هذا بُعْدٌ كبير.
الرَّابعُ: إذا كان التَّقديرُ وَلِكُلِّ قوْمٍ، فالمعنى: ولكل قوم جعلنهم مَوَالي نصيبٌ مِمَّا تَرَكَهُ والدُهم وأقربوهم، فـ "لكل" خبر مقدّم، و"نَصِيب" مُبْتَدَأٌ مُؤخَّرٌ، و"جعلناهم" صفة لقوم، والضَّمِيرُ العَائِدُ عليهم مفعولُ: "جعل"، و"موالي": إما ثانٍ وإمّا حالٌ، على أنَّهَا بمعنى "خلقنا"، و"مما ترك" صفةٌ للمبتدأ، ثم حُذف المُبْتَدَأ، وبقيت صفته، [وحُذِفَ المُضَافُ إليه "كُلّ" وبقيت صفته أيضاً]، وحُذف العَائِدُ على المَوْصُوفِ. ونظيره: لِكُلِّ خَلَقَهُ اللَّه إنْسَاناً مِنْ رِزْقِ اللَّه، أي: لِكُلِّ أحدٍ خلقه اللَّه إنْسَاناً نَصِيبٌ من رزقِ اللَّهِ.
الخَامِسُ: إنْ كَانَ التَّقدِيرُ: ولكلِّ مالٍ، فقالوا: يكون المعنى: ولكلِّ مال مِمَّا تركه الوالدانِ والأقربون جعلنا موالي، أي: وُرَّاثاً يلونه، ويحوزونه، وجعلوا "لِكُلّ" متعلقة: بـ "جَعَلَ"، و"مِمَّا ترك" صفة لـ "كُلّ"، والوالدان فَاعِلٌ بـ "تَرَكَ"، فيكونُ الكلامُ على هذا، وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً، وهذا وإنْ كَانَ حَسَناً، إلاّ أنَّ فيه الفَصْلَ بين الصِّفَةِ والموْصُوفِ بجملةٍ عامِلَةٍ في الموْصُوفِ.
قاتل أبُو حَيَّان: "وهو نظير قولك: بكُلِّ رَجُلٍ مَرَرْتُ تميميٍّ وفي جواز ذلك نَظَرٌ".
قال شهَابُ الدِّينِ: "ولا يحتَاجُ إلى نَظَرٍ؛ لأنَّهُ قد وُجِدَ الفصلُ بَيْنَ الموْصُوفِ والصِّفَةِ بالجملةِ العَامِلَةِ في المُضَافِ إلى المَوصُوفِ، كقوله تعالى:
{ { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الأنعام: 14] فـ { فَاطِرِ } صفة لـ { ٱللَّه }، وقد فُصِلَ [بينهما] بـ { أَتَّخِذُ } العامل في { أَغَيْرَ } فهذا أولى".
السَّادسُ: أنْ يكُونَ لكلِّ [مال] مفعولاً ثانياً لـ "جعَلَ" على أنَّها تصييرية، و"مَوَالي" مفعول أوَّل، والإعرابُ على ما تقدَّمَ.
فصل
"المَولى" لفظ مُشْتَرَكٌ بيْنَ مَعَانٍ:
أحدها: المعتِقُ؛ لأنَّهُ ولي نعمة من أعتقه، ولذلك سمي مولى النعمة. ثانيها: الْعَبْدُ المُعْتَقُ لاتِّصَالِ ولايَةِ مَوْلاَهُ به في إنْعَامِه عليه، وهذا كما سُمِّيَ الطَّالِبُ غرِيماً؛ لأنَّ له اللُّزُوم والمطالبة بحقِّه، ويسمَّى المطلوب غريماً، لِكونِ الدِّينِ لازِماً له.
وثالثها: الحليفُ؛ لأنَّ المحالف يلي أمْرَهُ بِعَقْدِ اليَمينِ.
ورابعُهَا: ابْنُ العَمِّ؛ لأنَّهُ يليه بالنُّصْرَةِ.
وخامسها: المولى لأنَّ يليه بالنُّصْرَةِ، قال تعالى:
{ { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } [محمد: 11].
سادسُهَا: العَصَبَةُ، وهو المُرادُ بهذه الآية؛ لقوله عليه السلامُ:
"أنا أوْلَى بالمؤمنينَ، مَنْ مَات وتَرَكَ مالاً، فَمَالُهُ لمَوَالِي الْعَصَبَةِ، ومَنْ ترك ديناً؛ فأنَا وَلِيُّه" .
وقال عليه السلامُ: "ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فللأوْلَى عصبَةٍ ذكر" .
قوله { وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ } في محلّهِ أربعة أوجهٍ:
أحدُهَا: أنَّهُ مُبْتدأ والخبر قوله: "فآتوهم" [ودخلت الفاء في الحيز لتضمن الذي معنى الشرط].
الثَّاني: أنَّهُ منصوبٌ على الاشْتِغالِ بإضمار فعلٍ، وهذا أرجحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ بَعْدَهُ طلباً.
والثَّالِثُ: أنَّهُ مرفوعٌ عطفاً على { ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ }، فإن أريدَ بالوالدين أنَّهُم موروثون، عادَ الضَّميرُ من "فآتوهم" على "موالي" وإن أُريد أنَّهُم وَارِثُون جازَ عودُه على "موالي" وعلى الوالدَيْنِ وما عُطِفَ عليهم.
الرَّابِعُ: أنَّهُ منصوب عطفاً على "موالي".
قال أبُو البَقَاءِ: [أي:] "وجعلنا الذين عاقدتْ وُرّاثاً؛ وكان ذلك ونسخ"، وردّ عليه أبُو حَيَّان بِفَسَادِ العطْفِ، قال: فإن جُعِل من عطْفِ الجُمَل، وحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أيْ: جعلنا وُرَّاثاً لكلِّ شَيْءٍ من المال، أو لِكُلِّ إنسان، وجَعلنَا الذِينَ عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً وفيه بعد ذلِكَ تَكَلُّفٌ. انتهى.
وقرأ عاصمٌ وحمْزَةُ والكسَائِيُّ: "عقدت" والباقون: "عاقدت" بألف وروي عن حمزة التَّشديد في "عقدت"، والمفاعلة هنا ظَاهِرَةٌ؛ لأنَّ المَرَادَ المخالفة.
والمفعولُ محذوفٌ على كُلٍّ من القِرَاءاتِ، أي: عاقدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم، ونسبة المُعاقَدَةِ، أو العَقْدِ إلى الأيمان مجاز، سوَاءٌ أُريد بالأيْمَانِ الجَارِحَة، أم القَسمُ.
وقيل: ثمَّ مُضافٌ محذوفٌ، أي: عقدت ذَوُو أيْمَانِكُم.
فصل في: "معنى المعاقدة والأيمان"
المُعَاقَدَةُ المُحالَفَةُ، والأيْمَانُ جمع يَمينٍ من اليد والقسَمِ، وذلك أنَّهُم كانُوا عند المُحالَفَةُ يأخذُ بعضهُمُ يدَ بَعْضٍ، على الوفَاءِ [والتمسك] بالعهد.
فصل الخلاف في نسخ الآية
قال بعضهم: إنَّ هذه الآية مَنْسُوخَةٌ، واسْتدلُّوا على ذلك بوجوه:
أحدها: أنَّ الرَّجُلَ كان في الجاهلِيَّةِ يُعَاقِدُ غيْرَهُ، فيقُولُ: "دَميَ دمُكَ وسِلْمِي سِلْمُك، وَحَرْبِي حَرْبُكَ، وترثُنِي وَأرِثُك، وَتَعْقِلُ عَنِّي، وأعْقِلُ عنك"، فيَكُونُ لهذا الحليف السّدس [من] الميراثِ، فذلك قوله: "فآتوهم نصيبهم"، فنُسِخ ذلك بقوله:
{ { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } [الأنفال: 75]، وبقوله: { { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ } [النساء: 11].
وثانيها: أنَّ الرَّجُلَ كانَ يتَّخِذُ أجنبياً فيجعله ابْناً له، وَهُمُ المُسَمُّوْنَ بالأدْعِيَاء في قوله تعالى: { أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ }، وكانوا يتوارثون بذلك، ثم نُسِخَ.
وثالِثُهَا: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُثْبِتُ المؤاخاة بيْنَ الرَّجلين مِنْ أصحابِهِ، وكان ذلك سَبَباً للِتَّوَارُثِ، ثم نسخ.
وقال آخرُونَ: الآيةُ غير مَنْسُوخَةٍ.
وقال إبْراهيمُ ومُجاهِدٌ: أرادَ: "فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة ولا ميراث".
وقال الجبَّائِيُّ: تقدير الآية: "ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون"، { والذين عاقدت أيمانكم } معطوف على قوله: { الوالدان والأقربون }، وسمى اللَّهُ تعالى الوارث مولى، والمعنى: لا تَدفعُوا المالَ إلى الحليفِ، بل للمولى، والْوَارِثِ.
وقال آخرون: المُرادُ بـ { الذين عاقدت أيمانكم } الزَّوْجُ، والزَّوْجَةُ، فأراد عقد النِّكاح قال تعالى
{ { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ } [البقرة: 235] وهو قول أبِي مُسْلِم الأصفهانيَّ قال: ونظيره آية المواريث، لما بَيَّنَ آية ميراث الوالدَيْنِ، ذكر معهم ميراثَ الزَّوْجِ، والزَّوْجَةِ.
وقيل: أراد بقوله: { الذين عقدت أيمانكم }: الميراث بِسَبَبِ [الوَلاَء] وقيل: "نزَلَتِ الآيةُ في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق، وابنه عبد الرَّحْمن، أمره اللَّه أن يؤتيه نَصِيبَهُ".
وقال الأصمُّ: المُرادُ بهذا النَّصِيب على سبيل الهِبَةِ، والهديَّة بالشيءِ القَلِيلِ كأمره تعالى لمن حَضَرَ القِسمَةَ أن يجعل لَهُ نصيباً كما تقدّم.
فصل الخلاف في إرث المولى الأسفل من الأعلى
قال جمهور الفُقَهَاءِ: "لا يَرثُ المَولى الأسْفَل من الأعلى".
وحكى الطَّحَاوِيُّ عن الحسن بنِ زيادٍ أنَّهُ قال: "يَرِثُ"، لما روى ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّ رجُلاً أعتق عبداً له؛ فَمَاتَ المُعْتِق، ولم يترك إلا المُعتَق، فجعل رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق ولأنَّهُ داخلٌ في عموم قوله: { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم }.
وأجيب بأنه لَعَلّ ذلك لما صار لبيت المال دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغُلامِ لحاجته، وفقره؛ لأنه كانَ مالاً لا وارث لَهُ، فَسَبيلُهُ أن يُصرف إلى الفُقَرَاءِ.
ثم قال تعالى[
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48] ثم قال] { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً }، وهذه كلمة وعد للمطيعين، ووعيد لِلْعُصَاةِ، والشَّهِيدُ الشَّاهد، والمرادُ إمّا علمه تعالى بجميع المَعْلُومَاتِ، فيكونُ المُرَادُ بالشَّهيدِ العالم، وإمّا شهادته على الخلق يَوْمَ القِيامَةِ، فالمُرَادُ بالشَّهيدِ المخبر.