التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً
٦٠
-النساء

اللباب في علوم الكتاب

لما أوْجَب الطَّاعَة على جميع المُكَلَّفين في الآيةِ الأولَى، ذكر في هذه الآيةِ أن المُنَافقين والذين في قُلُوبهم مَرَضٌ لا يُطيعُون الرَّسُولَ، ولا يَرْضُونَ بحُكْمِهِ، وإنما يُريدُون حُكْمَ غيره، و "الزَّعم" بفتح الزَّاي وضمها وكسرها مصدر زَعَم، وهو قَوْل يَقْتَرِنُ به اعتِقَادٌ ظَنِّيٌّ؛ قال: [الطويل]

1814- فَإنْ تَزْعُمينِي كُنْتُ أجْهَلُ فِيكُمُ فَإنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكَ بِالجَهْلِ

قال ابنُ دُرَيْد: أكثرُ ما يَقَعُ على البَاطِلِ، وقال - عليه الصلاة والسلام -: "بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا" .
وقال الأعْشى: [المتقارب]

1815- وَنُبِّئْتُ قَيْساً وَلَمْ أبْلُهُ كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ

فقال المَمْدُوح: وما هُو إلا الزَّعْم، وحَرَمَهُ ولم يُعْطِه شَيْئاً، وذكر صَاحِبُ العين أنَّها تَقَع غَالِباً [على "أنَّ"] وقد تَقَعُ في الشِّعْر على الاسْمِ، وأنشد بيت أبي ذُؤيْب، وقول الآخر: [الخفيف]

1816- زَعَمَتْنِي شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دبِيبَا

قيل: ولا يُسْتَعْمَل في الأكْثَرِ إلا في القَوْلِ الذي لا يَتَحَقَّقُ.
قال الليث: أهْل العَرَبيَّةِ يَقُولُون: زَعم فُلانٌ؛ إذَا شَكُّوا فيه فلم يَعْرِفُوا أكذبَ أمْ صَدَق؛ وكذلك تَفْسِير قوله:
{ { هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } [الأنعام: 136] أي: بقولهم الكَذِب.
قال الأصْمَعِيّ: الزَّعُومُ من الغَنَم الذي لا يُعْرَفُ أبها شحم أم لا وقال ابن الأعْرَابِيّ: الزَّعْم قد يُسْتَعْمل في الحَقِّ، وأنشد لأميَّة بن أبي الصَّلْت: [المتقارب]

1817- وإنِّي أدينُ لَكُمْ أنَّهُ سَيَجْزيكُمُ رَبُّكُمْ مَا زَعَمْ

وزعم [تكُون] بمعنى: ظَنَّ وأخَوَاتِهَا، فيتعَدَّى لاثْنَيْنِ في هَذِه الآيَةِ، و "أنَّ" سادَّةٌ مَسَدَّ مفْعُوليها، وتكون بمعْنَى"كَفَل" فتتعدى لِوَاحِدٍ؛ ومنه: { { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [يوسف: 72]، وبمعنى رَأس، وكذب وسَمُن، وهَزُلَ، فلا تتعَدَّى، وقرأ الجمهور: { أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } مبنياً للمَفْعُول، وقُرِئا مبنيَّيْن للفاعِلِ، وهو اللَّه - تعالى -.
فصل: سبب نزول الآية
روي في سبب النُّزُولِ وُجُوه:
أحدُها: قال الشَّعْبِي: كان بَيْنَ رَجُلٍ من اليَهُودِ ورَجُلٍ من المُنَافِقِين خُصُومَة، فقال اليَهُودِيّ: نتحاكمُ إلى مُحَمَّد؛ لأنه عَرَفَ أنَّهُ عَرَفَ أنَّهُ لا يأخُذ الرَّشْوَة، ولا يَمِيلُ في الحُكْمِ، وقال المُنَافِقُ: نتحَاكمُ إلى اليَهُودِِ؛ لِعْلِمه أنَّهم يأخذُون الرَّشْوَة ويميلُون في الحُكْمِ، فاتَّفَقَا على أن يَأتِيَا كَاهِناً في جُهَيْنَةَ، فَيَتَحَاكَمَا إلَيْه، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية.
قال جابر: كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة، ووَاحِدٌ في أسْلَم، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ كَهَّان.
وروى الكَلْبِي عن أبِي صَالِح عن ابن عبَّاسٍ: نَزَلَتْ في رَجُلٍ من المُنَافِقِين يُقال لَهُ: بشر، كان بَيْنَهُ وبَيْنَ يَهُودِيّ خُصُومَة، فقال اليَهُودِيّ: نَنْطَلِقُ إلى مُحَمَّد، وقال المُنَافِق: بل إلى كَعْبِ بن الأشْرَف، وهُوَ الذي سَمَّاهُ اللَّهُ طاغُوتاً، فأبَى اليَهُودِيُّ أن يُخَاصِمَه إلاَّ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رَأى المُنَافِق ذَلِك، أتَى معه إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لليهُودِيِّ، فلما خَرَجَا من عِنْدِه، قال المُنَافِقُ: لا أرْضَى [بهذا الحكم] فانْطلقْ بِنَا إلى أبِي بكْرٍ، فحكم لليَهُودِيِّ، فلم يَرْضَ، ذكره الزَّجَّاج.
فَلَزِمَهُ المُنَافِقِ وقال: انْطلِقْ بَنَا إلى عُمَر، فَصَار إلى عُمَر، فقال اليَهُودِيُّ [لعمر] اخْتَصَمْتُ أنَا وهَذَا إلى محمَّدٍ، فقضى [لي] عليْهِ، فلم يَرْض بقَضَائِهِ، وزَعَم أنه يُخَاصم إلَيْكَ، فقال عمر: [للمُنَافِقِ] أكذلك؟ قال: نَعَم؛ فقال لهما: رُوَيْدَكُمَا حتى أخْرُجَ إلَيْكَما. فدخَلَ عُمَرُ البَيْتَ وأخذَ السَّيْفَ واشْتَمل عَلَيْه، ثم خَرَجَ، فَضَرَبَ بِهِ المُنَافِقَ حَتَّى برد، وقال: هكذا أقْضِي بَيْن مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاء اللَّه ورسُولِهِ، فنَزَلَت هذه الآية.
وقال جِبْريل - عليه السلام -: إن عُمَر فرّق بين الحقِّ والبَاطِلِ، فَسُمِّي الفَارُوق.
وقال السُّدِّي: كان نَاسٌ من اليَهُود [قد] أسْلَمُوا ونَافَقَ بعضُهُم، وكانَتْ قُرَيْظَةُ والنَّضيرُ في الجَاهِليَّة، إذا قَتَلَ رَجُلٌ من بَنِي قُرَيْظَة [رَجُلاً من بني النَّضِير قُتِلَ بِهِ، أو أخذ ديتَهُ مئة وَسْقٍ من تَمْرٍ، وإذا قتل رَجُلٌ من بني النضير رَجُلاً من قُرَيْظة لم يُقْتَل بِهِ] وأعْطَى ديتهُ سِتِّين وسْقاً، وكانت النَّضِير وهم حُلَفَاءُ الأوْسِ أشْرَف وأكْثَر من قُرَيْظَة، وهم حُلَفَاءُ الخَزْرَج، فَلَمَّا جَاء الإسْلاَمُ، وهاجر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المَدِينَةِ قَتَل رجُلٌ من النَّضِير رَجُلاً من قُرَيْظَة، فاخْتَصَمُوا في ذَلِكَ، فقال بَنُو النَّضِير: كُنَّا وأنتم اصْطَلَحْنَا على أن نَقْتُل مِنكُم ولا تَقْتُلُون مِنَّا، وديتُكم سِتُّون وَسْقاً، وديَتُنَا مئةُ وَسْقٍ، فنحن نُعْطِيكُم ذَلِك.
فقالت الخَزْرج: هذا شَيْءٌ كنتم فَعَلْتُمُوه في الجَاهِليَّةِ؛ لكَثْرَتِكُم وقِلَّتِنا فَقَهَرتُمُونا، ونحن وأنْتُم اليَوْم إخوةٌ، ودينُنَا ودِينُكُم وَاحِدٌ، فلا فَضْلَ لكُم عَلَيْنَا، فقال المُنَافِقُون مِنْهم: انْطَلِقُوا بِنَا إلى أبِي بردة الكَاهِن الأسْلمِيّ، وقال المُسْلِمُون من الفَريقَيْن: لا بلْ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأبى المُنافِقُونَ فانْطَلَقُوا إلى أبِي بردة ليَحْكُمَ بَيْنَهُم، فقال: أعْطُوا اللُّقْمَة، يعني: الخطر، فقالوا: لَكَ عَشْرَة أوْسُق، فقال: لاَ بَلْ مئة وَسْقٍ ديَتِي، فأبَوْا أن يعطوهُ فوقَ عَشْرَة أوْسُق، فأبَى أنْ يَحْكُمَ بيْنَهُم، فأنزَلَ اللَّه - تعالى - آيتي القِصَاصِ، فدَعَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الكَاهِن إلى الإسْلامِ فأسْلَمَ، وعلى هذه الرِّوَايَة فالطَّاغُوتُ هو الكَاهِن.
وقال الحَسَن: إن رَجُلاً من المُسْلِمِينِ كان لَهُ على رَجُلٍ من المُنَافِقِين حَقٌّ، فدَعَاهُ المُنَافِقُ إلى وَثَنٍ كان أهْلُ الجَاهِليَّةِ يَتَحَاكَمُون إلَيْهِ، ورَجُلٌّ قائِمَ يترجَّم الأبَاطيلَ عن الوثَنِ، فالمُرَادُ بالطَّاغُوتِ؛ هو ذَلِكَ الرَّجُل، وقيلَ: كانوا يَتَحَاكَمُون إلى الأوْثَانِ، وكانَ طَريقُهم [أنهم] يَضْرِبُونَ القِدَاحَ بِحَضْرَةِ الوَثَنِ، فما خَرَجَ على القِدَاحِ حَكَمُوا بِهِ، وعلى هَذَا فالطَّاغُوتُ الوَثَنِ.
قال أبو مُسْلِم: ظاهر الآيَةِ يَدُلُّ على أنه كان المُخَاصِمُ منافِقاً من أهْلِ الكِتَاب، كان يُظهر الإسْلامَ عَلَى سبيل النِّفَاقِ، لأن قوله - تعالى -: { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } إنما يليقُ بمثل هذا المُنافِقِ.
قوله: { يُرِيدُونَ } حال من فَاعِل [{ يَزْعُمُونَ } أو من { ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ }.
وقوله: { وَقَدْ أُمِرُوۤاْ } حال من فَاعِل] { يُرِيدُونَ } فهما حالان مُتَدَاخِلان، { أَن يَكْفُرُواْ } في مَحَلِّ نَصْب فقط إن قدَّرْت تعدية "أمر" إلى الثَّانِي بِنَفْسِه، وإلا ففيها الخِلاَفُ المَشْهُور، والضَّمِير في [بِهِ] عَائِدٌ على الطَّاغُوتِ، وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويُؤنَّث، والكلام عليه في البَقَرة.
وقرأ عبَّاس بن الفضل: "أن يكفروا بهن"، بضمير جَمْع التَّأنيث.
فصل
قال القاضي: يَجِبُ أن يَكُونَ التحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ كالكُفرِ، وعدم الرِّضَى [بِحُكْمِ] مُحَمَّد - عليه السلام - كُفْرٌ؛ لوجوه:
أحدها: قوله: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التَّحاكم [إلى لطَّاغُوت] مقابلاً للكُفْر به، وهذا يَقْتَضِي أن التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوت كُفْر باللَّه، كما أن الكُفْرَ بالطَّاغُون إيمانٌ باللَّهِ.
ثانيها: قوله - [تعالى] -:
{ { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [النساء: 65] وهذا نَصٌّ في تكْفِير من لَمْ يَرْضَ بحُكْم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام -.
وثالثها: قوله - تعالى -:
{ { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63] وهذه الآياتُ تَدُلُّ على أنَّ من رَدَّ شيئاً من أوَامِرِ اللَّه والرَّسُول فهُو خَارِجٌ عن الإسْلام، سواءٌ رَدَّهُ من جِهَةِ الشِّرْكِ أو من جِهَةِ التَّمَرُّد، وذلك يُوجِبُ صِحَّة ما ذَهَبَتْ إليه الصَّحَابَة - رضي الله عنهم - من الحُكْمِ بارْتِدَادِ مَانِعِي الزَّكاة، وقَتْلِهم، وسَبْي ذراريهم.
قوله: { أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } في { ضَلاَلاً } ثلاثة أقوال:
أحدُها: أنه مصْدَرٌ على غير المَصْدَر، نحو:
{ { أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17]، والأصْل "إضلالاً" و "إنباتاً" فهو [اسْم] مصدر لا مَصْدَر.
والثاني: أنه مَصْدَر لمطَاوع { أَضَلَّ } أي: أضَلَّهُم فَضَلُّوا ضَلاَلاً.
والثالث: أن يَكُون من وَضْعِ أحد المَصْدَرَيْن مَوْضِع الآخَر.
فصل
قالت المعتزِلَةُ: قوله - تعالى -: { وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } يدُلُّ على أن كُفْر الكَافِرِ ليس بِخَلْق [الله - تعالى -] ولا بإرَادَته؛ لأنه لو خَلَقَ الكُفْر في الكَافِرِ وأرَادَهُ منه، فأيُّ تأثيرٍ للشَّيْطَانِ فيه، وأيضاً فإنَّه ذَمٌّ للشيطان؛ بسبب أنَّه يُريد هذه الضَّلالة، فلو كان - تعالى - مُرِيداً لها، لَكَانَ هُو بالذَّمِّ أوْلى، لأن [كُلَّ] من عابَ شيئاً ثم فَعلَهُ، كان بالذَّمِّ أوْلَى به؛ قال - تعالى -:
{ { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 3] وأيضاً فإنَّه تعَجُّبٌ من تحاكُمِهِم إلى الطَّاغُوتِ، مع أنَّهمُ أمِرُوا أن يَكْفُرُوا به، ولو كَانَ ذلك التَّحاكُم بِخَلْقِ اللَّهِ، لما بقي التَّعَجُّب، فإنه يُقالُ: إنك خَلَقْتَ ذلك الفِعْلَ فيهم، وأرَدْتَهُ مِنْهُم، بل التَّعَجُّب من هذا التَّعَجُّب [هو] أولى. وجوابُهم المُعارضَة بالعِلْم والدَّاعِي.