التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
١٠
قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ
١١
ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـيِّ ٱلْكَبِيرِ
١٢
-غافر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ } أي يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم: { لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } أي لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم عند دُخُول العذاب قاله البغوي.
واعلم أن الله تعالى عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله، وهم المذكورون في قوله
{ مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [غافر:4] وبين أنهم في القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط مِنْهُمْ.
قوله "إذْ تُدْعَوْنَ" منصوب بمقدر يدل عليه (هذا الظاهر، تقديره مقتكم إذ تدعون، وقدّره بعضهم: اذكروا إذ تدعون). وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً بالمقت الأول. ورد عليه أبو حيان بأنه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو الخبر، وقال: هذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تَخْفَى على المُبْتَدِىءِ، فضلاً عن من يَدَّعِي من العجم أنه شيخ العرب والعجم، قال شهاب الدين: وَمِثْلُ هذا لا يخفى على أبي القاسم، وإنما أراد أنه دال على ناصبه، (و) على تقدير ذلك فهو مذهب كوفي قال به. أو لأن الظَّرْفَ يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره، وأيُّ غموض في هذا حتى يُنْحي عليه هذا الإنحاء؟ ولله درّ القائل:

4321ـ حَسَدُوا الفَتَى إذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ فالقَوْمُ أعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ
كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَاكَذِباً وَزُوراً إنَّهُ لَذَمِيمُ

وهذا الرد سبقه إليه أبو البقاء فقال: ولا يجوز أن يعمل فيه مقت الله؛ لأنه مصدر أخبر عنه وهو قوله "أَكْبَرُ" فمن ثم أخذه أبو حيان، ولا يجوز أن ينتصب بالمقت الثاني لأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت دعائهم إلى الإيمان إنما مَقتُوهَا يَوْمَ القيامة. والظاهر أن "مقت الله" واقع في الدنيا كما تقدم في تفسير الآية. وجوز الحسن أن يكون في الآخرة وضعفه أبو حيان بأنه يبقى "إذْ تُدْعَوْنَ" مفلّتاً من الكلام لكونه ليس له عامل مقدم فلا يفسر قائلاً فإذا كان المقت في الدنيا أمكن أن يضمر له عامل تقديره (مقتكم). قال شهاب الدين: وهذا التجري على مثل الحسن يهون عليك تَجَرِّيه على الزمخشري ونحوه.
واللام في "لَمَقْتُ" لام ابتداء، أو قسم، ومفعوله محذوف أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم فهو مصدر مضاف لفاعله كالثاني. ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع في "أنفسكم" بين المقتين؛ لئلا يلزم الفصل بالخبر بين المقت الأول ومعموله على تقدير إعماله. لكن قد اختلف النحاة في مسألة وهي التنازع في فِعْلَي التعجب فمن منع اعتل بما ذكرته لأنه لا يُفْصَلُ بين فعل التعجب ومعموله، ومن جوز فقال: يلتزم (إعمال) الثاني حتى لا يلزم الفصل فليكن هذا منه، والحق عدم الجواز فإنَّه على خلاف قاعدة التنازع.
فصل
ذكروا في تفسير مقتهم أنفسهم وجوهاً:
الأول: أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا.
الثاني: أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دَعَوْهُم إلى الكفر في الدنيا، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كقوله تعالى:
{ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [البقرة:54]، والمراد قتل بعضهم بعضاً.
الثالث: قال محمد بن كعب (القُرَظِيّ): إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله:
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } إلى قوله: { وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [إبراهيم:22] ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم، وأما الذين ينادُون الكفار بهذا الكلام فهم خزنةُ جَهَنَّمَ.
فصل
المقت: أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال، فالمراد منه الإنكار والزجر، قال الفراء قوله { يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ } معناه ينادون أن مقت الله، يقال: ناديت إن زيداً قائمٌ، وناديت لَزَيْدٌ قائم.
ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خوطبوا بهذا الخطابُ قالوا: { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ... } الآية: "اثنتين" نعت مصدر محذوف تقديره إمَاتَتَيْنِ اثْنَتَيْن. قال عباس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما موتان وحياتان، وهو كقوله:
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة:28]. وقال السديّ: أميتُوا في الدنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم للسؤال ثم أميتُوا في قبورهم، ثم أُحْيُوا في الآخرة. وقوله { فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } أي من خروج من النار إلى الدنيا فنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك، وَمَّر نظيرُ: { هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [الشورى:44] والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليشتغلوا بالأعمال الصالحة.
فإن قيل: الفاء في قوله: "فاعْتَرَفْنَا" يقتضي أن تكون الإماتةُ مرتين (والإحياءُ مرتين) سبباً لهذا الاعتراض فما وجه هذه السَّبَبِيَّةِ؟.
فالجواب: لأنهم كانوا منكرين البعث فلما شاهدوا هذا الأحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن تلك الإماتة والإحياء.
واعلم أنهم لما قالوا فهل إلى خروج من سبيل فالجواب الصريح عنه أن يقال: لا أو نعم وهو تعالى لم يَقُلْ ذلك بل قال كلاماً يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج وهو قوله { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ } أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب والخلود من النار وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط إنما وقع بسبب كفرهم بتوحيد الله، أي إذا قيل لا إله إلا الله كفرتم وقلتمْ
{ أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً } [ص:5] { وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ } أي تصدقوا ذلك الشرك.
قوله "وَحْدَهُ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال، وجاز كونه معرفة لفظاً لكونة في قوة النكرة، كأنه قيل: منفرداً.
والثاني ـ وهو قول يُونُسَ ـ: أنه منصوب على الظرف والتقدير: دُعِيَ عَلَى حِيَالِهِ. وهو مصدر محذوف الزوائد، والأصل أوْحَدتُهُ إيحاداً.
قوله "فَالحُكْمُ للهِ" حيث حكم عليكم بالعذاب السَّرْمَدِ. وقوله: "العَلِيِّ الكِبِيرِ" يدل على الكبرياء والعظمة الذي لا أعلى منه ولا أكبر.