التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ
١٣
فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ
١٤
رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ
١٥
يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ
١٦
ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٧
-غافر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } ليدل على كمال قدرته وحكمته وأنه لا يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصور شركاء لله تعالى في المعبودية، ثم قال { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً } يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرٍ "ينزل" خفيفة والباقون بالتشديد.
واعلم أن أهم المُهّمات رعايةُ مصالح الأديان ومصالح الأبدان، فالله تعالى يراعي مصالح أديان العباد بإظهار البَيِّنات والآيات وراعى مصالح العباد بأبدانهم بإنزال الرزق من السماء فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان وعند حصولها يحصل الإنعام الكامل.
ثم قال: { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } أي ما يتعظ بهذه الآيات إلا من يرجع إلى الله في جميع أموره فيعرض عن غير الله ويقبل الكليّة على الله تعالى ولهذا قال { فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } عن الشرك وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ.
قوله تعالى: "رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ" فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر "ذو العرش" و "يُلْقِي الروح" يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً، ويجوز أن يكونَ الثلاثة أخباراً لمبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الثلاثة أخباراً لقوله { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ } قال الزمخشري: ثلاثة أخبار يجوز أن تكون مترتبة على قوله { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ } أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً، قال شهاب الدِّين: أما الأول ففيه طول الفصل وتعدد الأخبار، وليست في معنى خبر واحد، (وأما الثاني ففيه تعدد الأخبار وليس في معنى واحد) وهي مسألة خلاف ولا يجوز أن يكون "ذُو العَرْشِ" صفة "لِرَفيعِ الدرجات" إن جعلناه صفة مشبهة، أما إذا جعلناه مثال مبالغة أي يرفع درجات المؤمنين فيجوز ذلك على أن يجعل إضافته محضة، وكذلك عند من يُجَوِّزُ تَمَحُّضَ إضافة الصفة المشبهة أيضاً. وقد تقدم، وقرىء "رَفِيعَ" بالنصب على المدح.
فصل
لما ذكر من صفات كبريائه كونه مظهراً للآيات منزلاً للأرزاق ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله رفيع الدرجات وهذا يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع، فإن حملناهُ على الأول ففيه وجوه:
الأول: أن الله يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة.
والثاني: يرفع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة فجعل لكل أحد من الملائكة درجةً معيّنة كما قال:
{ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } الصافات:164]، وجعل لكل أحد من العلماء درجة معينة فقال تعالى: { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة:11] وعين لكل جسم درجةً معينة فجعل بعضها سُفْليّة كدرة، وبعضها فلكية كوكبية، وبعضها من جواهر العرش والكرسي، وأيضاً جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخَلْقِ والخُلُقِ والرزق والأجل فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [الأنعام:165] وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة وفي الآخرة تظهر تلك الآثار. وإن جعلنا "الرفيع" على "المرتفع" فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال. وقوله "ذُو العرْشِ" أي خالقه ومالكه ومدبره، و "يُلْقِي الرُّوح" أي ينزل الوحي من السماء روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح وقوله "مِنْ أَمْرِهِ" متعلق بـ "يُلْقِي"، و "مِنْ" لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حَالٌ من "الروح".
فصل
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: معنى من أمره أي من قضائه، وقيل: من قوله. وقال مقاتل بأمره على من يشاء من عباده. وقوله: { لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } العامة على بنائه للفاعل، ونصب اليوم والفاعل هو الله تعالى أو الروح أو "مَنْ يَشَاءُ" أو الرسول، ونصب "اليوم" إما على الظرفية والمُنْذَرُ به محذوف تقديره لينذر العذابُ يوم التلاق، وإما على المفعول به اتساعاً في الظرف وقرأ أبيّ وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازاً أي لينذر الناس العذاب يوم التلاق. وقرأ الحسن واليمانيّ "لتنذر" ـ بالتاء من فوق ـ وفيه وجهان:
أحدهما: أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
والثاني: أن الفاعل ضمير الروح فِإنها مؤنثة على رأيٍ.
وقرأ اليماني أيضاً "لينذر" مبنياً للمفعول "يوم" بالرفع وهي تؤيد نصبه في قراءة الجمهور على المفعول به اتساعاً. وأثبت ياء "التلاق" وصلاً ووقفاً ابن كثير، وأثبتها في الوقف دون الوصل من غير خلاف ورشٌ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً إلا قَالُونُ، فإنه روي عنه وجهان، وجهٌ كورشٍ، ووجه كالباقين، وكذلك هذا الخلاف بعينه جارٍ في "يَوْم التَّنَادِ". وقد تقدم توجيه هنذه الوجهين في الرَّعْد في قوله:
{ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ } [الرعد:9].
قوله" { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } في "يوم" أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه بدل من "يوم التلاق" بدل كل من كل.
الثاني: أن ينتصب بالتلاق أي يقع التلاق في يوم بُرُوزِهِمْ.
الثالث: أن ينتصب بقوله لا يَخْفَى عَلَى اللهِ (مِنْهُمْ شَيْءٌ) ذكره ابن عطية. وهذا على أحد الأقوال الثلاثة في "لا" هل يعمل ما بعدها فيما قبلها؟ ثالثها التفصيل بين أن تقع جواب قسم فيمتنع أو لا فيجوز هذا على قولين من هذه الأقوال.
الرابع: أن ينتصب بإضمار "اذكر" و "يوم" ظرف مستقبل "كإذا". وسيبويه لا يرى إضافة الظرف المستقبل إلى الجمل الاسمية والأخفش يراه ولذلك قدر سيبويه في قوله
{ إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } [الإنشقاق:1] ونحوه فعلاً قبل الاسم، والأخفش لم يقدرْه، وعلى هذا فظاهر الآية مع الأخفش. ويجاب عن سيبويه بأن "هُمْ" ليس مبتدأ بل مرفوعاً بفعل محذوف يفسره اسمُ الفاعل، أي يوم برزوا ويكون "بارزون" خبرَ مبتدأ مضمر، فلما حذف الفعل انفصل الضمير فَبَقِيَ كما ترى، وهذا كما قالوا في قوله (ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ):

4322ـ لَوْ بغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ كُنْتُ كالغَصَّانِ بِالمَاءِ اعْتِصَارِي

في أَنَّ "حَلْقِي" مرفوعٌ بفعل يفسره "شَرِقٌ"؛ لأنَّ "لَوْ" لا يليها إلا الأفعال، وكذا قوله (شعرا)

4323ـ ............................ إليَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِيعُها

لأنَّ "هَلاَّ" لا يليها إلا الأفعال، فالمفسَّر في هذه المواضع ِأسماء مشتقة وهو نظير: أنا زَيْداً أضَارِبُهُ من حين التفسير، وحركة "يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ" حركة إعراب على المشهور، ومنهم من جوز بناء الظرف وإن أضيف إلى فعلٍ مضارع أو جملة اسمية وهم الكوفيون، وقد وَهَمَ بعضُهم فَحَتَّم بناء الظرف المضاف للجمل الاسمية وقد تقدم أنه لا يبنى عند البصريين إلا ما أضيف إلى (فعل) ما نُصَّ كقوله:

4324ـ عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ........ ............................

وتقدم هذا مُسْتَوْفًى في آخر المائدة.
وكتبوا "يَوْمَ" هنا وفي الذاريات منفصلاً، وهو الأصل.
قوله: { لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ } يجوز أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً من ضمير "بَارِزُونَ"، وأن تكون خبراً ثانياً.
فصل
قال بعض المفسرين: يوم التلاق هو يوم يلتقي أهلُ السماء وأهل الأرض. وقال قتادة ومقاتل: يلتقي الخلق والخالق. وقال ابن زيد: يتلاقى العباد. وقال مَيْمُونُ بْنُ مَهْرَانَ: يلتقي الظالم والمظلوم، وقيل: يلتقي العابد والمعبود، وقيل: يلتقي فيه المرء مع عمله، وقيل: يلتقي الأرواح مع الأجساد، بعد مفارقتها إياها يوم هم بارزون، كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى:
{ يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [الطارق:9].
{ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ } أي من أحوالهم شيء ويقول الله سبحانه بعد فناء الخلق { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه فيقول { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } الذي قهر الخلق بالموت.
فإن قيل: الله تعالى لا يخفى عليه شيء منهم في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا العلم بذلك اليوم؟.
فالجواب: أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحِيطَان والحُجُب أن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حالة لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدنيا، كما قال تعالى:
{ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [فصلت:22]، وقال تعالى: { يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ } [النساء:108] وهو معنى قوله: { وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم:48].
فصل
قال المفسرون: إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى: لِمن الملك اليوم؟ يعني يوم القيامة، فلا يجيبه أحد، فهو تعالى يجيب نفسه فيقول: لله الواحد القهار، قال ابن الخطيب: قال أهل الأصول هذا القول ضعيف من وجوه:
الأول: أنه تعالى بين أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق يوم هم بارزون، ويوم تجزى كل نفس ما كسبت، والناس في ذلك الوقت أحياء فبطل قولهم إنما ينادى هذا النداء حين يَهْلِكُ كُلُّ من في السموات ومن في الأرض.
الثاني: أن الكلام لا بد فيه من فائدة؛ لأن الكلام إما أن يذكر حالَ حُضُور الغير أو حالَ ما لا يَحْضُرُ الغير، والأول باطل ههنا؛ لأن القوم قالوا: إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل. والثاني أيضاً باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأن يحفظ به شيئاً كتكريره على الدرس وذلك على الله تعالى محال أو لأجل أن يعدي الله بذلك الذكر وهذا ايضاً على الله تعالى محال فثبت (أن) قولهم: إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل، وقال بعض المفسرين: إنه في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى منادٍ: لمن الملك اليوم؟ فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة: لله الواحد القهار، فالمؤمنون يقولونه تلذذاً بهذا الكلام حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة، والكفار يقولونه تحسراً وصَغَاراً وندامةً على تفويتهم هذا الذكر في الدنيا، وقال القائلون بهذا القول الأول عن ابن عباس وغير إن هذا النداء بعد هلاك البشر لم يمنع أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء ويجيبون بقولهم: لله الواحد القهار. وقال ابن الخطيب: أيضاً على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى، ولا يبعد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمع آخرون وليس على التعيين دليل.
قوله: { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } يجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }.