التفاسير

< >
عرض

فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
٧٧
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ فَإِذَا جَـآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْمُبْطِلُونَ
٧٨
ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَنْعَامَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٧٩
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
٨٠
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ
٨١
-غافر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } لما زَيَّفَ طريقة المجادلين في آيات الله تعالى أمر في هذه الآية رسوله بأن يصبرَ على أذاهم بسبب جدالهم، ثم قال: { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ }. والمراد ما وعد الرسول نُصْرته، ومن إنزال العذاب على أعدائه.
قوله: { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ } قال الزمخشري: أصله: فَإِن نُرِكَ و "ما" مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل، ألا ترَاك تقول: "إنْ تُكرِمَنِّي أكْرِمْكَ، ولكن إِمَّا تُكْرِمَنِّي أُكْرِمْكَ" قال أبو حيان: "وما ذكره من تَلاَزُمِ النون، وما الزائدة، ليس مذهب سيبويه، إنما هو مذهب المبرد، والزجاج.
ونص سيبويه على التخيير، وقد تقدمت هذه القواعدُ مستوفاةً.
قوله: { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ليس جواباً للشرط الأول، بل جواباً لما عطف عليه. وجواب الأول محذوف. (قال الزمخشري: "فَإِلَيْنَا" متعلق بقوله "نَتَوفَّينَّكَ" وجواب نرينك محذوف) تقديره: فإن نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب والقتل يوم بدر، فذاك؛ وإنْ "نَتَوَفَّيَنَّكَ" قبل يوم بدر "فَإِلَيْنَا يُرجَعُونَ" فننتقم منهم أشدُّ الانتقام. وقد تقدم مثلُ هذا في سورة يونس. وبحثُ أبي حَيَّانَ مَعَهُ.
وقال أبو حيان هَهُنَا: وقال: جواب "إما نُرِيَنَّكَ" محذوف؛ لدلالة المعنى عليه أي فتقرّ عينك، ولا يصح أن يكون "فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ" جواباً للمعطوف عليه والمعطوف، لأن تركيبَ "فإما نُرينك بعض الذي نعدهم في حياتك فإلينا يرجعون" ليس بظاهر، وهو يصحُّ أن يكون جواب "أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ" أي فإِلينا يرجعون فننتقم منهم ونعذبهم، لكونهم يَتَّبِعُوكَ.
ونظير هذه الآية قوله تعالى:
{ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } [الزخرف:41 و42]. إلا أنه هنا صرح بجواب الشرط، قال شهاب الدين: وَهَذَا بعَيْنِهِ هو قول الزمخشري. وقرأ السُّلَمِيُّ ويَعْقُوبُ: يَرْجِعُونَ بفتح ياء الغيبة مبنياً للفاعل، وابْنُ مِصْرِفٍ ويعقوبُ أيضاً بفتح الخطاب.
قوله: { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا } يجوز أن يكون "مِنْهُمْ" صفة "لِرُسُولاً" فيكون "مَنْ قَصَصْنَا" فاعلاً لاعتماده ويجوز أن يكون خبراً مقدماً، و"مَنْ" مبتدأ مؤخر.
ثم في الجملة وجهان:
أحدهما: الوصف "لِرُسُلاً" وهو الظاهر.
والثاني: الاستئناف.
فصل
معنى الآية قال لمحمد (ـ صلى الله عليه وسلم ـ)، أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس فيهم أحد أعطاه الله آياتٍ ومعجزاتٍ، إلا وقد جادله قومُه فيها وكَذَّبُوه فصبروا، وكانوا أبداً يقترحون على الأنبياء إظهار المعجزات الزائدة على الحاجة عِناداً وعبثاً، { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }، والله تعالى علم الصلاح في إظهار ما أظهروه، فلم يَقْدَحْ ذلك في نُبُوَّتِهِمْ، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جَرَمَ ما أظهرناها.
ثم قال: { فَإِذَا جَـآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلْحَقِّ } أي فإذا جاء قضاءُ الله بين الأنبياء والأمم قضي بالحق { وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْمُبْطِلُونَ } وهم المعاندون الذين يجادلون في آيات الله فيقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة تعنتاً وعبَثاً.
قوله تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَنْعَامَ... } الآية. لما ذكر الوعيدَ عاد إلى ذِكر ما يدل على وجود الإِلَهِ القَادِرِ الحَكِيمِ، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد.
قال الزجاج: "الأَنْعَامُ الإِبل (خاصة)"، وقال القاضي: هي الأزواج الثمانية. وقوله: "مِنْهَا.... وَمِنْهَا".
"من" الأولى يجوز أن تكونَ لِلتَّبْعِيض، إذ ليس كُلُّها تُرْكَبُ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية إذ المرادُ بالأنعام شيءٌ خاصٌّ هي الإبل، قال الزجاج: "لأنه لم يُعْهد المركوبُ غيرها".
وأما الثانية فكالأولى. وقال ابن عطية: هي لبيان الجنس قال: لأن الخيل منها ولا تُؤْكَلُ.
فإن قيل: ما السَّبَبُ في إدخال لام العِوَض على قوله: "لِتَرْكَبُوا" وعلى قوله: "لِتَبْلُغُوا" ولم يدخل على البَوَاقِي؟.
فالجواب: قال الزمخشري: الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجباً أو مندوباً، وأيضاً ركوبها لأجل حاجتهم، وهي الانتقال من بلدٍ إلى بلد آخر لطلب علم أو إقامة دين يكون إما واجباً أو مندوباً فهذان القسمان أغراض دينيةٍ، فلا جَرَمَ أدخل عليها حرف التعليل نظيره قوله تعالى:
{ وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [النحل:8] فأدخل حرف التعليل على "الرُّكُوبِ" ولم يدخله على الزِّينَةِ.
قوله { لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا } أي بعضها { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها { وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ } لحمل أثقالكم من بلد إلى بلد. قوله: { وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } أي على الإبل في البرِّ، وعلى السفن في البَحْرِ.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: في الفلك، كما قال:
{ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } [هود:40]؟.
فالجواب: كلمة على للاستِعْلاَء، فالشيء يُوضَع على الفلك كما صح أن يقال: وضع فيه صح أن يقال: وضع عليه ولما صح الوجهان كانت لفظةُ "عَلَى" أولى حتى يتم المزاوجة في قوله: { وعليها وعلى الفلك تحملون }.
وقال بعضهم: إن لفظة "فِي" هناك ألْيَقُ؛ لأن سفينة نُوحٍ على ما قيل كانت مُطْبِقَةً عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء، وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح، لان الناس على ظهرها.
قوله: { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } دلائل قدرته، وقوله: { فَأَيَّ آيَاتِ ٱللَّهِ } منصوب بـ "تُنْكِرُونَ" وقدم وجوباً لأن له صدر الكلام. قال مكيّ: ولو كان مع الفعل هاءٌ لكان الاختيار الرفع في أي بخلافِ ألف الاستفهام تدخل على الاسم، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضمير الاسم فالاختيار النصب نحو قولك: أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ، هذا مذهب سيبويه فرق بين الألف وبين "أي" يعني أنك إذا قُلْت: أَيّهُمْ ضَرَبْتَ؟ كان الاختيار الرفع؛ لأنه لا يُحْوجُ إلى إضمار مع أن الاستفهام موجود وفي: "أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ" يختار النصب لأجل الاستفهام فكان مقتضاه اختيار النصب أيضاً فيما إذا كان الاستفهام بنفس الاسم، والفرق عَسِرٌ.
وقال الزمخشري: "فأَيَّ آيَاتِ" جاءت على اللغة المستفيضة وقولك: فأية آياتِ الله قليلةٌ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو: حِمَار، وحِمَارة غريب، وهو في أي أغرب (لإبهامه) قال أبو حيانَ (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ): وِمن قلة تأنيث أيٍّ قولُه:

4351ـ بأيِّ كتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وتَحْسِبُ

وقوله: وهو في "أي" أغرب إن عَنَى "أيًّا" على الإطلاق فليس بصحيح؛ لأن المستفيضَ في النِّداء أن يؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } [الفجر:27] ولا نعلم أحداً ذكر تذكيرها فيه فيقول: يـٰأَيُّها المرأَةُ، إلا صاحب البَدِيع في النَّحْوِ. وإن عنَى غير المناداة فكلامه صحيح يقل تأنيثها في الاستفهام، وموصولة شرطية.
قال شهاب الدين: أما إذا وقعت صفةً لنكرة أو حالاً لمعرفة فالذي ينبغي أن يجُوزَ الوجهان كالموصولة ويكون التأنيث أقلّ نحو: مررتُ بامرأةٍ أَيَّةِ امرأة، وجَاءَتْ هِنْدٌ أَيَّةُ امْرَأَةٍ وكان ينبغي لأبي حَيَّانَ أن ينبه على هذين الفَرْعَيْنِ.
فصل
معنى قوله { فَأَيَّ آيَاتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ } أَيْ هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة ليس في شيء منها ما يمكن إنكاره.