التفاسير

< >
عرض

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِيۤ أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ
١٦
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٧
وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ
١٨
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
١٩
-فصلت

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } الصَّرصرُ: الريح الشديدة، فقيل: هي الباردة من الصَّرِّ وهو البرد، وقيل: هي الشديدة السُّمُوم، وقيل: المُصوِّتةُ من صرَّ البابُ أي سُمِعَ صريرُهُ. والصَّرَّةُ: الصَّيحة ومنه: { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } [الذاريات:29] قال ابن قتيبة "صَرْصَرٌ" يجوز أن يكون الصَّرِّ وهو البرد، وأن يكون من صرَّ البابُ، وأن يكون من الصََّرَّة ومنه: { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } [الذاريات:29].
قوال الراغب: صَرْصرٌ لفظه من الصّر وذلك يرجع إلى الشد لما في البرودة من التعقيد.
قوله: في أيَّام نحساتٍ قرأ الكوفيون وابنُ عامر بكسر الحاء والباقون بسكونها.
فأما الكسر فهو صفة على "فَعِلٍ" وفعلُهُ: "فَعِلَ" بكسر العين أيضاً كفِعْلِهِ؛ يقال: نَحِسَ فهو نَحِسٌ، كَفَرِحَ، فهُو فَرِحٌ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ، ومعناه نكدات مَشْئُوماتٌ ذاتُ نُحُوسٍ.
وأمال اللَّيثُ عن الكسائيِّ ألفه لأجل الكسرة، ولكنه غير مشهور عنه حتى نسبه الدَّانيُّ للوهم وأما قراءة الإسكان فتحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يكون مخفف من "فَعِل" في القراءة المتقدمة وفيه توافق القراءتين.
الثاني: أنه مصدر وصف به كرجُلٍ عَدْلٍ، إلا أنَّ هذا يضعفه الجمعُ، فإن الفصيحَ في المصدر الموصوف (به) أن يوحَّد وكأنَّ المُسوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعه في الأصل.
الثالث: أنه صفة مستقلة على "فَعْل" بسكون العين ولكن أهل التصريف لم يذكروا في الصفة الجائية من "فَعِل" بكسر العين إلا أوزاناً محصورة ليس فيه "فَعْل" بالسكون فذكروا: فَرِحَ فهو فَرِحٌ وحور فهو أحْوَرُ، وشَبع فهو شَبْعَانُ، وسَلِمَ فهو سَالِمٌ، وبلي فَهُو بالٍ. وفي معنى "نحسات" قولان:
أحدهما: أنها من الشّؤم، قال السدي أي مشائيم من النحس المعروف.
والثاني: أنها من شدة البرد وأنشدوا على الأول قولَ الشاعر:

4360ـ يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْماً نَحْسَانَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ وَنَجْماً نَحْسَا

وعلى المعنى الثاني:

4361ـ كَأَنَّ سُلاَفَةً عُرِضَتْ لِنَحْسٍ يُحِيلُ شَفِيفُهَا المَاءَ الزًُّلاَلاَ

ومنه:

4362ـ قَدْ أَغْتَدِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ للصَّيْدِ فِي يَوْمِ قَلِيلِ النَّحْسِ

وقيل: يريدُ به في هذا البيت الغبار، أي قليل الغبار. وقد قيل بذلك في الآية إنها ذات غبار. و "نَحِسَات" نعت لأيَّام، والجمع بالألف والتاء مُطَّرِدٌ في صفة ما لا يعقل كأيَّام معدوداتٍ كما تقدم تحقيقه في البقرة (اللَّهُمَّ يَسِّرْ).
فصل
الصَّرْصَر: العاصفة التي تُصَرْصِرُ في هُبُوبِهَا. روي عن عبد الله بن عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: الرِّياح ثمانٍ، اربعٌ منها عذاب وهي العاصف، والصرصر، والعقيم، والعاصفة، وأربع منها رحمة، وهي: الناشرات، والمُبَشِّرات، والمُرْسَلاَت، والذَّاريات. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خَاتَمِي. وقال الضحاك: أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، وتوالت الرياح عليهم من غير مَطَرٍ.
فصل
استدلَّ الأَحكَامِيُّون من المُنَجِّمِينَ بهذه الآية على أن بعض الأيام يكون نحساً وبعضها سعداً وأجاب المتكلمون بأن المراد بهذه النحسات أي ذات غبار وتراب ثائر، لا يكاد يُبْصَرُ فيه ولا يُتَصَرَّف فيه، وقالوا أيضاً: معنى كون هذه الأيام نَحِسَاتٍ أن الله أهلكهم فيها. وأجاب الأحكاميون بأن الأحكام في وضع اللغة هي المشئومات لأن النحس مقابلة السعد، والهواء الكدر يقابله الصافي. وأيضاً فإنه تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات، فوجب أن كون تلك الأيام نَحِسَةً مغايراً لذلك العذاب الذي وقع فيها.
قوله: { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي عذاب الهوان والذل مقابل لذلك الاستكبار { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ } أشد إهانة { وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } أي لا يكون لهم ناصر يدفع عنهم ذلك الخزي.
قوله تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ } الجمهور على رفعه، ممنوع الصرف. والأعمش وابن وثَّاب مصروفاً، وكذلك كل ما في القرآن إلا قوله:
{ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ } [الإسراء:59]، قالوا لأن الرسم ثمود بغير ألف. وقرأ ابن عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش ـ في روايةٍ ـ ثموداً منصوباً مصروفاً. والحسنُ وابن هرمزٍ وعاصم أيضاً منصوباً غير منصرف.
فأما الصرف وعدمه فقد تقدم توجيههما في "هُودٍ". وأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر، وهو متعيّن عند الجمهور لأن "أَمَّا" لا يليها إلا المبتدأ، فلا يجوز فيما بعدها الاشتغال إلا في قليل كهذه القراءة، وإذا قدرت الفعل الناصب فقدِّره بعد الاسم المنصوب أي وأما هديناهم فهديناهم. قالو: لأنها لا يليها الأفعال.
فصل
قال الزمخشري: وقرىء: بضم الثَّاء. قال مجاهد: هديناهم: دعوناهم. وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بيَّنَّا لهم سبيل الهدى، وقيل: دللناهم على طريق الخير والشر، كقوله
{ هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } [الإنسان:3] { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } أي فاختاروا الكفر على الإيمان.
وذكر الزمخشري في تفسير الهدى قوله تعالى:
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة:2]: أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وهذه الآية تبطل قوله لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل. (انتهى).
فصل
قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أن الله تعالى ينصب الدلائل ويزيح الأعذار إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد، لأن قوله تعالى: "فَهَديْنَاهُمْ" يدل على أنه تعالى نصب لهم الدلائل، وقوله { فاستحبوا العمى على الهدى } يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى، وهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد.
والجواب من وجهين:
الأول: أنه إنما صدر عنهم ذلك العمى لأنهم أحبوا تحصيله، فلما وقع في قلوبهم هذه المحبة دون محبة ضده، فِإن حصل هذا الترجيح لا لمرجِّح فهو باطل وإن كان لمرجِّح فإن كان المرجِّح هو العبد عاد الطلب، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب.
الثاني: أنه تعالى قال: { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمًى وجهلاً بل ما يظنُّ في ذلك العمى والجهل بكونه تبصرةً وعلماً مما يرغب فيه فإقدامه على اختياره على ذلك الجهل الثاني إن كان باختياره لزم التسلسل وهو محال، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب.
قوله: { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وصاعقة العذاب أي المهلكة والعذاب الهون أي ذي الهون، أي الهوان وهو الذي يهينهم { بما كانوا يكسبون } من شركهم وتكذيبهم صالحاً.
ثم قال: { وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ } يعني يتقون الأعمال التي كانوا يأتون بها عادٌ وثمودٌ.
فإن قيل: كيف يجوز للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ينذر قومه مثل صاعقة عادٍ وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله:
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال:33] وجاء في الحديث الصحيح أن الله رفع عن هذه الأمة أنواع العذاب؟!.
فالجواب: أنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعادٍ وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة وأن السبب الموجب للعذاب واحد ربما يكون العذاب النازل بهم من جنس ذلك وإن كان أقل درجة، وهذا القدر يكفي في التخويف.
قوله تعالى: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ } الآية لما بين كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليحصل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير، فقال: "ويوم يحشر". في العامل في هذا الظرف وجهان:
أحدهما: محذوف دل عليه ما بعده من قوله "فَهُمْ يوزَعُونَ" تقديره: يساقُ الناسُ يَوْمَ يُحْشَر وقدره أبو البقاء يمنعون يوم يحشر.
الثاني: أنه منصوب باذكر، أي اذكر يوم. وقرأ نافع "نَحْشُرُ" بنون العظمة وضم الشين "أَعْدَاءَ" نصباً أي نحشر نحن، والباقون بياء الغيبة مضمومة والشين مفتوحة على ما لم يسم فاعله و "أَعْدَاءُ" رفعاً لقيامه مقام الفاعل.
ووجه الأول أنه معطوف على "وَنَجَّيْنَا" فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ (يقويه) وقوله
{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ } [مريم:85]، { وَحَشَرْنَاهُمْ } [الكهف:47].
وحجة الثانية: أن قصة ثمود قد تمت وقوله: "وَيَوْمَ يُحْشَر" ابتداء كلام آخر وأيضاً الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله:
{ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الصافات:22] وهم الملائكة، وأيضاً موافقة لقوله: "فَهُمْ يُوزَعُونَ" وأيضاً فتقدير القراءة الأولى، أن الله تعالى قال: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ } فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال: ويوم نَحْشُرُ أعداءنا إلى النار. وكسر الأعرج شين "يحشِر". ثم قال: "فهم يُوزَعون" أي يساقون، ويدفعون إلى النار. وقال قتادة والسدي: يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا. أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم.