التفاسير

< >
عرض

فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ
٢٤
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
٢٥
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
٢٦
فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢٧
-فصلت

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي سكن لهم، يعني إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرجٍ ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أي مقاماً لهم.
قوله: { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } العامة على فتح الياء من "يَسْتَعْتِبُوا" وكسر التاء الثانية مبنياً للفاعل { فما هم من المعتبين } بكسر التاء اسم الفاعل ومعناه وإن طلبوا العُتْبَى وهي الرضا فما هم ممن يعطاها. والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل، يقال: أعتبني فلانٌ، أي أرضاني بعد إسخاطه إيَّاي، واستعتبته طلبت منه أن يعتب أي يرضى. وقيل: المعنى وإن طلبوا زوال ما يعتبون فيه فماهم من المجابين إلى إزالة العتب. وأصل العتب المكان النَّائي بنازله، ومنه قيل لأسكفَّة الباب والمرقاة: عتبة، ويعبر بالعتب عن الغلظة التي يجدها الإنسان في صدره على صاحبه، وعتبت فلاناً أبرزت له الغلظة، وأعتبته أزلت عتباه كأشكيته وقيل: حملته على العتب.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وإن يُستعتبوا مبنياً للمفعول فما هم من المُعْتِبِينَ اسم فاعل بمعنى إن يطلب منهم أن يرضوا فما هم فاعلون ذلك، لأنهم فارقوا دار التكليف، وقيل: معناه أن يطلب ما لا يعتبون عليه فما هم ممَّن يريد العُتْبَى وقال أبو ذؤيب:

4363ـ أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ والدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ

قوله: "وَقَيَّضْنَا لَهُمْ" بعثنا لهم ووكلنا، وقال مقاتل: هَيَّأْنَاهُ. وقال الزجاج: سينالهم وأصل التقييض التيسير والتهيئة، قيضته للداء هيأته له ويسّرته، وهذان ثوبان قيِّضان أي كل منهما مكافىء للآخرة في الثمن. والمقايضة المعارضة، وقوله { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } [الزخرف:36] أي نسهل ونيسر ليستولي عليه استيلاء القَيْض على البَيْض.
والقيض في الأصل قشر البيض الأعلى. قال الجوهري: ويقال: قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما يقال: بيعان. وقيَّض الله فلاناً لفلان أي جاء به ومنه قوله تعالى: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ } والمراد بالقرناء النظراء من الشياطين حتى أضلونهم { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الدنيا حتى أثروه على الآخر "وَمَا خَلْفَهُمْ" من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث.
وقال الزجاج: زينوا (لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنَّه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا وأن الدنيا قديمة، ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك. وقيل: ما بين أيديهم أعمالهم التي يعملونها وما خلفهم ما يعزمون أن يعملوه.
وقال ابن زيد: مابين أيديهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة (وما بقي من أعمالهم الخسيسة)).
فصل
دلت هذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر؛ لأنه تعالى قيَّض لهم قرناء فزينوا لهم الباطل، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر. وأجاب الجُبَّائيُّ بأن قال: لو أراد المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين؛ لأن الفاعل لما يريده منه غيره يجب أن يكون مطيعاً له. وأجاب ابن الخطيب: بأنه لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لوجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه فهذا إلزام الشيء على نفسه وإن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه هل يصح أم لا.
قوله: "فِي أُمَمٍ" نصب على الحال من الضمير في "عَلَيْهِمْ" والمعنى كائنين في جملة أُمَمٍ، وهذا كقوّله (شِعْراً):

4364ـ إنّْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَة مَأْ فُوكاً فَفِي آخَرِين قَدْ أَفِكُوا

أي في جملة قوم آخرين. وقيل: في بمعنى "مع".
فصل
احتجّ أهل السنة بأنه تعالى أخبر أن هؤلاء حق عليهم القول فلو لم يكونوا كفاراً لانقلب هذا الخبر الحق باطلاً، وهذا العلم جهلاً، وهذا الخبر الصدق كذباً، وكل ذلك محال، ومستلزم المحال محال فثبت أن صدور الإيمان وعدم صدور الكفر عنهم محال.
قوله (تعالى): { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ... } الآية اعلم أن الكلام ابتداء من قوله تعالى:
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ } [فصلت:5] إلى قوله: { إِنَّنَا عَامِلُونَ } [فصلت:5].
وأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة واتصل الكلام إلى هذا الموضع، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى فقال: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } العامة على فتح الغين وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون من "لَغِيَ" بالكسر يَلْغَى، وفيها معنيان:
أحدهما: من ألغى إذا تكلم باللغو وهو ما لا فائدة فيه.
والثاني: أنه من لغى بكذا أي رمى به فتكون "في" بمعنى الباء أي ارموا به وانبذوه.
والثاني: من الوجهين الأولين: أن يكون من "لَغَا" بالفتح أيضاً حكاه الأخفش، وكان قياسه الضم كغزا يغزو، ولكنه فتح لأجل حرف الحلق. وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين، من لغا بالفتح يَلغُو كدَعَا يَدُعُو، وفي الحديث:
"فَقَدْ لَغَوْتَ" . وهنذا موافق لقراءة غير الجمهور.
فصل
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: يعني الغَطُوا فيه، كان بعضهم يوصي بعضاً: إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو.
قال مجاهد: والغوا في بالمكاء والصّفير. وقال الضحاك: أكثروا الكلام فيختلط عليه ما يقول؛ وقال السّدي صيحوا في وجهه. "لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" على قراءته، وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلين باللغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمداً بفضله ولما ذكر الله تعالى هددهم بالعذاب الشديد وقال { فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً } وهذا تهديد شديد؛ لأن لفظ الذوق إنما بذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب شديد، فِإن كان القليل منه عذاباً شديداً فكيف يكون حال الكثير منه؟! ثم قال: { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال أكثر العلماء: المراد بالأسوأ أي أقبح أعمالهم لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت أعمالهم الحسنة، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة فلا جرم لم يحصلوا إلا على السيئات.