التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ
٢٨
وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ
٢٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٣٠
نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
٣١
-فصلت

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: "ذَلِكَ" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتداً و "جزاء" خبره.
والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر ذلك و { جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ } جملة مستقلة مبينةٌ للجملة قبلها.
(قوله): "النار" فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من "جزاء" وفيه نظر؛ إذ البدل يحل محلّ المبدل منه فيصير التقدير ذلك النار.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر.
الثالث: أنه مبتدأ و { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } الخبر، و "دَارُ" يجوز ارتفاعها بالفاعليَّة أو الابتداء.
وقوله: { فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } يقتضي أن يكون "دار الخلد" غير النار، وليس كذلك بل النار هي نفس دار الخلد. وأجيب عن ذلك: بأنه قد يجعل الشيء ظرفاً لنفسه باعتبار متعلَّقه على سبيل المبالغة، لأن ذلك المتعلق صار مستقراً له، وهو أبلغ من نسبة المتعلق إليه على سبيل الإخبار به عنه. ومثله قول الآخر:

4365ـ ...........................وَفيِ اللهِ إنْ لَمْ تُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ

وقوله تعالى: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب:21] والرسول هو نفس الأسوة. كذا أجابوا. وفيه نظر؛ إذ الظاهر وهو معنى صحيح منقول أن في النار داراً تسمى دار الخلد، والنار محيطة بها.
قوله: "جزاء" في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب بفعل مقدر، وهو مصدر مؤكد، أي يجزون جزاءً.
الثاني: أن يكون منصوباً بالمصدر الذي قبله، وهو جزاء أعداء الله. والمصدر ينصب بمثله كقوله
{ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً } [الإسراء:63].
الثالث: أن ينتصب على أنه مصدر واقع موقع الحال و "بِمَا" متعلق "بجزاء" الثاني إن لم يكن مؤكداً وبالأول إن كان (مؤكداً) و "بِآيَاتِنَا" متعلق بيجحدون.
فصل
لما قال:
{ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [فصلت:27] بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار، ثم قال: { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ }، أي لهم في جملة النار دارٌ معينة، وهي دار العذاب الخلد، { جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون } أي يبلغون في القراءة، وسماه جحداً؛ لأنهم لما علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به فاستخرجوا (تلك) الطريقة الفاسدة وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً وأنهم جحدوا حسداً.
قال الزمخشري: "أي بما كانوا يلغون، فذكر الجحود؛ لأنه سبب اللَّغو" انتهى.
يعني أنه من باب إقامة السبب مقام المسبَّب، وهو مجاز سائغٌ.
قوله: { وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا.... } الآية تقدم الخلاف في "أَرِنَا" وفي نون اللَّذين وقال الخليل: إذا قلت: أرني ثوبك فمعناه بصِّرنيهِ، وبالسكون أعطنيه.
فصل
لما بين أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السوء بيَّن أن الكفار (عند الوقوع في العذاب الشديد) في النار يقولون: { رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } ومعناه أن الشيطان على نوعين جنٍّي وإنْسِيٍّ.
قال تعالى:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [الأنعام:112] وقال: { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [الناس:5ـ6] وقيل: هما إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه؛ لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل فهما سنا المعصية. { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } في النار { لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } قال مقاتل: يكونون أسفل منا في النار. وقال الزجاج: ليكونا في الدرك الأسفل. وقال بعض الحكماء: المراد باللَّذَيْنَ يُضِلاَّن الشهو والغضب والمراد بجعلهما تحت أقدامهم كونهما مسخَّرين للنفس مطيعين لها، وأن لا يكونا مستوليين عليها قاهرين لها.
قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } الآية. لما ذكر الوعيد أردفه بذكر الوعد كما هو الغالب. واعلم أن "ثُمَّ" لتراخي الرتبة في الفضيلة سئل أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئاً. وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغَ رَوَغَات الثَّعْلَب. وقال عثمان ـ رضي الله عنه ـ أخلصوا العمل. وقال علي ـ رضي الله عنه ـ أدَّوا الفرائض. وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ استقاموا على أداء الفرائض. وقال الحسن ـ (رضي الله عنه) ـ استقاموا على أمر الله بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله. وقال قتادة: كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال: اللَّهُمَّ فَارْزُقْنَا الاستقامة.
قوله: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ عند الموت. وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم. وقال وكيع بن الجرَّاح: البشرى تكون في ثلاثة مواطن، عند الموت وفي القبر وعند البعث.
قوله: { أَنْ لاَّ تَخَافُواْ } يجوز في "أن" أن تكون المخففة، أو المفسِّرة، أو الناصبة و "لا" ناهية على الوجهين الأولين، ونافية على الثالث. وقد تقدم ما في ذلك من الإشكال. فالتقدير بأن لا تخافوا أي بانتفاء الخوف. وقال أبو البقاء: التقدير: بأن لا تخافوا، أو قائلين أن لا تخافوا فعلى الأول: هو حال، أي نزلوا بقولهم: لا تخافوا. وعلى الثاني: الحال محذوفة. قال شهاب الدين: يعني الباء المقدرة حالية، فالحال غير محذوفة وعلى الثاني الحال هو القول المقدر وفيه تسامح، وإلا فالحال محذوفة في الموضعين، وكما قام المقول مقام الحال كذلك قام الجار مقامها. وقرأ عبد الله "لا تخافوا" بإسقاط "أن" وذلك على إضمار القول، أي: يقولون لا تخافوا.
فصل
{ أن لا تخافوا } من الموت. قال مجاهد: لا تخافون على ما تَقْدَمُونَ عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلَّفتم من أهل وولد، فإنا نخلفكم في ذلك كله. وقال عطاء ابن أبي رباح: لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم.
قوله: { وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }.
فإن قيل: البشارة عبارةٌ عن الخبر الأول بحصول المنافع، فأما إذا أخبر الرجل بحصول المنفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كان الإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارةً، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير، فإذا سمع المؤمن هذا الخبَر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة، فما السَّبب في تسمية هذا الخبر بشارة؟.
فالجواب: أن المؤمن قد يسمع بشارات الخير، (فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة! قلنا: المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقِيًّا) كان له الجنة أما إذا لم (يسمع) ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان أخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الاول فكان ذلك بشارة.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث (لا) يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد (بل يكون آمن الصدر لأن قوله: { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } يفيد نفي الخوف، والحزن على الإطلاق).
قوله تعالى: { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال:
{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ } [فصلت:25]. قال السدي: تقول الملائكة نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا (ونحن أولياؤكم في الدينا) ونحن أولياؤكم في الآخرة أي لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة. { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ } من الكرامات واللذات { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي تتمنون.
فإن قيل: هلى هذا التفسير لا فرق بين قوله: { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } و { ولكم فيها ما تدعون } قال ابن الخطيب: والأقرب عندي أن قوله: { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } إشارة إلى الجنة الرُّوحانيَّة المذكورة في قوله
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ } [يونس:10] الآية.