التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٣
وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
٤
أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ
٥
-الزخرف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { حـمۤ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } إن جعلت "حم" قسماً كانت الواو عاطفة، وإن لم تكن الواو للقسم.
وقوله: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } جواب القسم. وهذا عندهم من البلاغة، وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ واحد، كقول أبي تمام:

4388ـ .......................... وَثَنَـايَـــاك إنَّهــا إغْريـــضُ

إن أريد بالكتاب القرآن، وإن أُرِيدَ به جنس الكتب المنزلة غير القرآن لم يكن من ذلك. والضمير في "جَعَلْنَاهُ" على الأول يعود على الكتاب وعلى الثاني للقرآن وإن لم يصرح بذكره. والجَعْلُ في هذا تصيير، ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تَجْوِيزِه أن يكون بمعنى خلقناه.
فصل
ذكر المفسرون في هذه الآية وجهين:
الأول: أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون المقسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حم.
الثاني: أن يكون القسم واقعاً على قوله: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }.
وفي المراد بالكتاب قولان:
أحدهما: أنه القرآن فيكون قد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً.
والثاني: المراد بالكتاب الكتابة والخط، أقسم بالكتاب لكثرة ما فيه من المنافع، ووصف الكتاب بأنه مبين أي أبان طريق الهدى من طريق الضلال، وأبان ما يحتاج إليه الأمة من الشريعة وتسميته مبيناً مجاز؛ لأن المبين هو الله تعالى وإنما سمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل البيان عنده.
وقوله: "جَعَلْنَاهُ" أي صَيَّرْنَا قراءة هذا الكتاب عربياً. وقيل: بيّناه. وقيل: سميناه وقيل وضعناه. يقال: جَعَلَ فُلاَنٌ زَيْداً عَالِماً، أي وصفه بهذا، كقوله:
{ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [الزخرف:19] و { جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } [الحجر:91] { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ } [التوبة:19] كلها بمعنى الوصف والتسمية.
فصل
احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه:
الأول: أنها تدل على أن القرآن مجعول, والمجعول هو المصنوع المخلوق.
فإن قيل: المراد به أنه سماه عربياً, فهذا مدفوع من وجهين:
الأول: أنه لو كان المراد من الجعل التسمية لزم أن سماه عجمياً أنه يصير عجمياً، وإن كان بلغة العرب، وهذا باطل.
الثاني: (أنه) لو صرف الجَعْلُ إلى التسمية لزم كونُ التسمية مجعولة، والتسمية أيضاً كلام الله وذلك أنه جعل بعض كلامه، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل.
الثاني: أنه وصفه بكونه قرآناً، وهو إنما سمي قرآناً، لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض، وما كان ذلك كان مصنوعاً.
الثالث: وصفه بكونه عربياً، وإنما يكون عربياً، لأن العرب اختصت بضوع ألفاضه واصطلاحهم، وذلك يدل على أنه مجعول. والتقدير: حَم وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينِ.
ويؤكد هذا بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
"يَا رَبَّ طَه وَيس، ويَا ربِّ القُرْآنِ العَظِيم" .
وأجاب ابن الخطيب: بأن هذا الذي ذكرتموه حق؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة مُحْدَثَةً، وذلك معلوم بالضرورة وَمَنِ الذي ينازعكم فيه.
قله: { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } كلمة "لَعَلَّ" للتمني والترجي، وهي لا تليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور، وكان المراد ههنا: إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيًِّا لأجل أن تُحِيطُوا بمَعْنَاه.
قوله تعالى: { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا } متعلقان بما بعدهما، ولا تمنع اللام من ذلك. ويجوز أن يكونا حالين مما بعدهما؛ لأنهما كانا وصفين له في الأصل فيتعلقان بمحذوف، ويجوز أن يكون "لدينا" متعلقاً بما تعلق به الجار قبله، إذا جعلناه حالاً من لَعَلِيّ، وأن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه. وكذا يجوز في الجار أن يتعلق بما تعلق به الظرف وأن يكون حالاً من ضميره عند من يجوز (تقديمها) على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون الظرف بدلاً من الجار قبله، وأن يكونا حالين من "الكتاب" أو مِنْ "أُمِّ".
ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء، وقال: "ولا يجوز أن يكون واحدٌ من الظرفين خبراً؛ لان الخبر لزم أن يكون "عَلِيًّا" من أجل اللام". قال شهاب الدين: وهذا يمنع أن تقول: "إنَّْ زَيْداً كَاتِبٌ لَشَاعِرٌ؛ لأنه منع أن يكون غير المقترن بها خبراً".
وقرأ حمزةُ والكِسَائِيُّ إم الكتاب ـ بكسر الألف ـ والباقون بالضم. والضمير في قوله "وَإنَّهُ" عائد إلى الكتاب المتقدم ذكره.
فصل
قيل: أم الكتاب هو اللوح المحفوظ. قال قتادة: أم الكتاب أصل الكتاب، وأُمُّ كُلِّ شيء أصْله.
قال ابن عباس: ـ (رضي الله عنهما) ـ: أَوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ القَلَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أنْ يَخْلُقَ فالكتاب عنده ثم قرأ: وإنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا، فالكتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال:
{ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج:21ـ22].
وقوله: { لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } قال قتادة: يخبر عن منزلته وشرفه، أي إن كَذَّبْتُمْ بالقرآن يا أهل مكة فَإنه عندنا "لَعَلِيٌّ" رفيع شريف "حَكِيمٌ" أي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة، أو ذو حكمة بالغةٍ. قيل: المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [آل عمران:7] والمعنى أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.
فإن قيل: ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب فيستحيل عليه السهو والنسيان؟.
فالجواب: أنه تعالى لما أثْبَتَ في ذلك أحكامَ حوادثِ المخلوقات، ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافَقَة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه.
قوله تعالى: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً } في نصب "صفحاً" خمسةُ أوجه:
أحدها: أنه مصدر في معنى يضرب؛ لأنه يقال: ضَرَبَ عَنْ كَذَا وأَضْرَبَ عَنْهُ بمعنى أعْرَضَ عنه وصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ قال:

4389ـ اضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَاضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ

والتقدير: أفنصفح عنكم الذكر، أي أفَنُزِيلُ القرآن عنكم إزالةً، يُنْكِرُ عليهم ذلك.
الثاني: أنه منصوب على الحال من الفاعل أي صافحين.
الثالث: أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة، فيكون عامله محذوفاً، نحو:
{ صُنْعَ ٱللَّهِ } [النمل:88] قاله ابن عطية.
الرابع: أن يكون مفعولاً من أجله.
الخامس: أن يكون منصوباً على الظرف.
قال الزمخشري: و "صَفْحاً" على وجهين: إما مصدر من صَفَحَ عنه إذَا أعرض عنه، منتصب على أنه مفعول له، على معنى أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إنْزَالَ القُرْآنِ وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم: نَظَرَ إلَيْهِ بصفح وجهه، وصفح وجهه بمعنى أفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جانباً؟ فينتصب على الظرف، نحو: ضَعْهُ جانباً، وأمْش جنباً، وبعضده قراءة: صُفْحاً بالضم. يشير إلى قراءة حَسَّانِ بْنِ عبد الرحمن الضُّبَعيَّ وسُمَيْطِ بن عُمَر وشُبَيْل بن عَزرَةَ قرأوا: صُفْحاً ـ بضم الصاد ـ وفيه احتمالات:
أحدهما: ما ذكره من كونه لُغَةً في المفتوح، ويكون ظرفاً. وظاهر عبارة أبي البقاء أنه يجوز فيه ما جاز في المفتوح؛ لأنه جعله لغة فيه كالسَّدِّ والسُّدِّ.
والثاني: أنه جمع صَفُوحٍ، نحو: صَبُورٍ، وصُبْر، فينتصب حالاً من فاعل "يَضْرِبُ" وقدَّرَ الزمخشري على عادته فعلاً بين الهمزة والفاء، أي: أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ. وقد تقدم ما فيه.
قوله: { أَن كُنتُمْ } قرأ نافع والأَخَوَانِ بالكسر، على أنها شرطيه. وَإسْرَافُهُمْ كان مُتَحَقِّقاً و "إنْ" إنما تدخل على غير المُتَحَقّق أو المتحقق المبهم الزمان.
وأجاب الزمخشري: أنه من الشرط الذي يصدر عن المُدْلِي بصحة الأمر والتحقيق لثبوته كقوله الأجير: "إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ عَمَلاً فَوَفِّني حَقِّي"، وهو عالم بذلك، ولكنه تخيل في كلامه أن تفريطَك في إيصال حقي فعل من له شك في استحقاقه إيَّاه تجهيلاً لهم.
وقيل: المعنى على المُجَازَاة، والمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحاً متى أسْرَفْتُم، أي إنكم غير متروكين من الإنذار متى كنتم قوماً مسرفين. وهذا أراد أبو البقاء بقوله: وقرىء: إن بكسرها على الشرط وما تقدم يدل على الجواب، والباقون بالفتح على العلة، أي لأَنْ كُنْتُمْ كقوله:

4390ـ أَتَجْـزَعُ أَنْ بَـانَ الخَلِيـطُ المُـوَدِّعُ .............................

ومثله قوله:

4391ـ أَتَجْــزَعُ أَن أُذْنَـا قُتَيْبَــةَ جُزَّتَــا .............................

يروى بالكسر والفتح، وقد تقدم نحوٌ من هذا أول المائدة. وقرأ زيدُ بنُ عليّ: إذا ـ بذالٍ عوضِ النون وفيها معنى العلة، كقوله: { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران:139].
فصل
قال الفراء والزجاج: يقال: ضَرَبْتُ عَنْهُ وأَضْرَبْتُ عَنْهُ. أي تَرَكْتُهُ ومَسَكْتُ عَنْهُ، وقوله: "صَفْحاً" أي إعراضاً، والأصل فيه: إنك تَوَلَّيْتَ بصَفْحَةِ عُنُقِكَ. والمراد بالذكر عذابُ الله. وقيل: أفنرُدُّ عنكم النصائح والمراعظ والأعذار بسبب كونكم مسرفين، وقيل: أَفَنَرُدُّ عنكم القرآن، وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أفنترك عنكم الوحي، ونمسك عن إنزال القرآن، فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان؟ وهذا قول قتادةَ وجماعةٍ، قال قتادة: والله لو كان هذا القول رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنةً أو ما شاء الله.
وقيل: معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين مُعْرِضينَ. وقال الكسائي: أفنطوي عنكم الذّكْرَ طَيًّا، فلا تدعون ولا توعظون، وقال الكلبي: أَفَنَتْركُكُم سُدًى، لا نأمركم ولا نَنْهَاكُمْ. وقال مجاهد والسدي: أفَنُعْرِضُ عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم.