التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ
٨١
سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
٨٢
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٨٣
وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ
٨٤
وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٨٥
وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٨٦
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٨٧
وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ
٨٨
فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
٨٩
-الزخرف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ }. قوله { إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ } قيل: هي شرطية على بابها، واختلف في تأويله، فقيل: إن صح ذلك فأنا أول من يعبده، لكنه لم يصح ألبتة بالدليل القاطع، وذلك أنه علق العبادة بكَيْنُونَة الولد، وهي محالٌ في نفسها، فكان المعلق بها محالاً مثلها. فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. ذكره الزمخشري.
وقيل: إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين أي الموحِّدِين لله، المكذبين لهذا القول.
واعلم أن هذا التأويل فيه نظر، سواء أثبتوا لله ولداً، أو لم يُثْبِتُوا له، فالرسول منكر لذلك الولد، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراً لذلك الولد، فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد. وهذا التأويل قاله الواحدي.
وقيل: العابدين بمعنى الأَنِفِين، من عَبِدَ يَعْبَدُ إذَا اشْتَدَّ أنفه فهو عَبدٌ وعَابِدٌ، ويؤيده قراءة السُّلَمِيَّ واليَمَانِيِّ: العَبِدِينَ دون ألف. وحكى الخليل قراءة غريبة وهي العَبْدين بسكون الباء وهي تخفيف قراءة السلمي، فأصلها بالكسر.
قال ابن عرفة: يقال: عَبِدَ بالكسر ـ يَعْبَدُ ـ بالفتح ـ فهو عَبِدٌ. وقلَّ ما يقال:عابد والقرآن لا يجيء على القليل أو الشاذ يعني تخريج من قال: إن العابدين بمعنى الأَنِفِينَ لا يصح، ثم قال كقول مجاهد. وقال الفرزدق:

4420ـ أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْوَأَعْبَدُ أَنْ أَهْجُو كُلَيْباً بِدَارِم

وقال آخر:

4421ـ مَتَى مَا يَشَأ ذُو الوُدِّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُوَيَعْبَدْ عَلَيْهِ لاَ مَحَالَةَ ظَالِمَا

قال ابن الخطيب: وهذا التعليق أيضاً فاسد؛ لأن هذه الأنفة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل.
وقال أبو عبيدة: معناه الجاحدين، يقال: عَبَدَنِي حَقِّي، أي جَحَدَنِيهِ. وقال أبو حاتم: العَبِدُ ـ بكسر الباء ـ الشديدُ الغَضَب، وهو معنى حسن، أي إن كان له ولد على زعمكم فأنا أول من يغضب لذلك.
وقيل: "إنْ" نافية؛ أي ما كان ثم أخبر بقوله: { فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } أي الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له وتكون الفاء سببية. ومنع مكي أن تكون نافية. قال: "لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت، وهذا محال". ورد عليه بأن "كَانَ" قد تدل على الدوام. كقوله: "وَكَانَ اللهُ غَفَوراً رَحِيماً" إلى ما لا يحصى. والصحيح من مذاهب النحاة أنها لا تدل على الانقطاع والقائل بذلك يقول ما لم تكن قرينة كالآيات المذكورة.
وروي عن عبد الله بن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أن المعنى ما كان للرحمن ولدّ فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك، جعل "إنْ" بمعنى الجَحْد، وقال السدي معناه: ولو كان للرحمن ولد فأنا أو من عبده بذلك ولكن لا ولد له. وتقدم الخلاف في قراءتي "وَلَد" و "ولد" في مَرْيَمَ. ثم إن تعالى نزه نفسه فقال: { سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي عما يقولون من الكذب وذلك أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكلّ ما كان كذلك فهو لا يقبل التَّجْزِيءَ بوجه من الوجوه، والولد عبارة أن ينفصل عن الشيء جزءٌ فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله، وهذا إنما يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتَّجْزِيء والتبعيض، وإذا كان ذلك مُحَالاً في حق إله العالم امتنع إثباتُ الولد.
ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال: { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم { حَتَّىٰ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } يعنى يوم القيامة. والمقصود منه التهديد، يعني قد ذكرت الحجة على فساد ما ذكروا، فلم يلتفتوا إليها، لأجل استغراقهم في طلب المال والجاة، والرياسة، فاتركهم في ذلك الباطل، واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الموعود.
قوله: "يُلاَقُوا" قراءة العامة من المُلاَقَاةِ. وابنُ مُحَيْصِن ويروى عن ابن عمرو "يَلْقُوا" من "لَقِِيَ". قوله (تعالى): { وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ } "في السماء" متعلق بـ "إله" لأنه بمعنى معبود في السماء معبود في الأرض، وحينئذ فيقال: (إنَّ) الصلة لا تكون إلا جملة، أو ما في تقديرها وهو الظرف وعديله. ولا شيء منها هُنَا.
والجواب: أن المبتدأ حذف لدلالة المعنى عليه، ولأن المحذوف هو العائد، تقديره: وَهُوَ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إلهُ، وَهُوَ فِي الأَرْضِ إلَهُ، وإنما حذف لطول الصلة بالمعمول، فإن الجار متعلق "بإلَهٍ" ومثله: مَا أَنَا بالَّذِي قَائِلٌ لَكَ سُوءاً وقال أبو حيان: وحسنه طوله بالعطف عليه كما حسن في قولهم: "قَائِلٌ لَكَ شَيْئاً" طولُه بالمعمول.
قال شهاب الدين: حصوله في الآية، وفيما حكاه سواء، فإن الصلة طالت بالمعمول في كليهما والعطف أمر زائدٌ على ذلك، فهو زيادة في تحسين الحذف. ولا يجوز أن يكون الجارُّ خبراً مقدماً و "إله" مبتدأ مؤخراً، لئلا تَعْرَى الجملةُ من رابطٍ؛ إذ يصير نظير "جَاءَ الَّذِي فِي الدَّارِ زَيْدٌ" فإن جعلت الجار صِلةً، وفيه ضمير عائد على الموصول وجلعت "إله" بدلاً منه، فقال أبو البقاء: "جاء على ضعفه؛ لأن الغرض الكلي إثبات الإلهية، لا كونه في السموات والأرض فكان يفسد أيضاً من وجه آخر، وهو قوله: { وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ }؛ لأنه معطوف على ما قبله، وإذا لم يقدر ما ذكرنا صار منقطعاً عنه، وكان المعنى أنه في الإرض إله. انتهى.
وقال أبو علي: نظرت فيما يرتفع به "إله" فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هُوَ الَّذِي في السماء هُو إله. وقال أبو حيان: ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور، والمعنى أنه فيهما بإلهيَّته، ورُبُوبِيَّته؛ إذ يستحيل حمله على الاستقرار، وقرأ عُمَرُ، وعَلِيٌّ، وعبدُ الله في جماعةٍ وهو الذي في السماء اللهُ ضمَّن العلم أيضاً معنى المشتق فيتعلق به الجار ومثله: هُوَ حَاتِمٌ فِي طَيّىءٍ. أي الجواد فيهم. ومثله: فرعونُ العَذَابُ.
فصل
قال ابن الخطيب: وهذه الآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر في السماء لأنه تعالى بين في هذه الآية أن نسبته بإلهيته السماء كنسبته إلى الأرض، فلما كان إلهاً للأرض مع أنه غير مستقر فيها فكذلك وجب أن يكون إلهاً للسماء مع أنه لا يكون مستقراً فيها.
فإن قيل: أيُّ تعلق لهذا الكلام ينفي الولد عن الله عزّ وجلّ؟.
فالجواب: تَعَلُّقُه به أنه تعالى خالق عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بمحض كُنْ فَيَكُون من غير واسطة النطفة والأب فكأنه قيل: إن كان هذا القدر لا يوجب كون عيسى ولداً للهِ عزّ وجلّ؛ لأن هذا المعنى حاصل في تخليق السموات والأرض مع انتفاء حصول الولد به هناك. ثم قال: { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } الحكيم في تدبير خلقه العليم بِمَصَالِحِهِمْ. وقد تقدم في سورة الأنعام أن كونه حكيماً عليماً ينافي حصول الولد له.
قوله: "تَبَاركَ" إما أن يكون مشتقاً من وجوب البقاء، وإما من كثرة الخير، وعلى التقديرين فكل واحد من الوجهين ينافي كون عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ واجبَ البقاء والدوام؛ لأنه حدث بعد أن لَمْ يَكُنْ ثم عند النصارى أنه قُتل ومَاتَ ومن كان كذلك لم يكن بينه وبين الباقي الأزلي الدائم مجانسة ومشابهة فامتنع كونه ولداً له، وإن كانَ المرادُ بالبركة كثرةَ الخيرات مثل كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فَعِيسى لم يكن خالقاً لهما مع أن اليهود عندهم أخذوه وقتلوه وصلبوه، والذي هذا صفته كيف يكون ولداً لمن كان خالقاً للسَّمَوات والأرض وما بينهما؟ ثم قال: { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } والمقصود منه التنبيه على أن كل من كان كاملاً في الذات، والعلم، والقدرة على الوصف المشروح فإنه يمتنع أن يكون ولده في العجز وعدم القدرة عن أحوال العالم بالحد الذي وصفته النصارى به.
قوله: { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قرا الأَخَوانِ، وأبنُ كثير بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق وهو في كلاهما مبني للمفعول. وقرىء بالخطاب مبنياً للفاعل.
قوله: { وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } قرأ العامة يدعون بياء الغيبة، والضمير للموصول.
والسُّلَمِيٌّ وابنُ وَثَّاب بتاء الخطاب. والأَسْودُ بنُ يَزِيدَ بتشديد الدال، ونقل عنه القراءة مع ذلك بالياء والتاء.
وقوله: { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ } فيه قولان:
أحدهما: أنه متصل، والمعنى إلا من شَهِدَ بالحَقِّ، كعُزَيْزٍ، والملائكة فإنهم يملكون الشفاعة بتمليك الله إياهم لها وقيل: هو منقطع بمعنى أن هؤلاء لا يشفعون إلا فيمن شهد بالحق أي لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء كذا قدروه. وهذا التقدير يجوز فيه أن يكون الاستثناءُ متصلاً على حذف المفعول تقديره: ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ إلاَّ فِيمَنْ شَهِدَ.
فصل
ذكر المفسرون قولين في الآية:
أحدهما: أن الذين يدعون من دون الملائكة وعيسى، وعزير، لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق.
الثاني: رُوِيَ أن النضْرَ بْنَ الحَارِثِ ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقوله محمدٌ حقاً فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من مُحَمَّدٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى لا يقدر هؤلاء أنْ يَشفعوا لأحد.
ثم استثنى فقال: إلاَّ من شهد بالحق أي الملائكة وعِيسَى وعُزير، فإنهم يشفعون. فعلى الأول: تكون "من" في محل جر، وعلى الثاني تكون "من" في محل رفع. والمراد بشهادة الحق قول: لا إله إلا الله كلمة التوحيد "وهم يَعْلَمُونَ" بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم.
قوله تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ... } الآية ظن قوم أن هذه الآية وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرونَ إلى الاعتراف بوجود الإله قال الجبائي: وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا: لا إله (لهم) غيره. وقوم إبراهيم قالوا: إنَّا لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ (مُرِيبٍ).
وأجيب: بأنا لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله، بدليل قوله تعالى:
{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [النمل:14] وقال موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ } [الإسراء:102] على قراءة من فتح التاء من"عَلمتَ" وهذا يدل على أن فرعون كان عارفاً بالله. وأما قول قوم إبْراهيم ـ (عليه الصلاة والسلام) ـ: { { وَإِنَّا لَفِي شَكِّ مِمَّا تَدْعُونا إلَيْهِ } [إبراهيم:9] فهو مصورف إلى إثبات القيامة، وإثبات التكليف، وإثبات النبوة.
قوله: { فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي لم يكذبون على الله فيقولون: إنَّ الله أمرنا بعبادة الأصنام؟.
قوله تعالى: { وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } قراءة حمزة وعاصم بالجر، والبَاقُونَ بالنصب فأما الجر فعلى وجهين:
أحدهما: أنه عطف على "الساعة" أي عنده علم قِيلِهِ، أي قول محمد، أو عِيسى والقَوْلُ والقَالُ والقِيلُ بمعنًى واحد. جاءت المصادر على هذه الأوزان.
والثاني: أن الواو للقسم، والجواب إما محذوف، تقديره: لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد وإما مذكور، وهو قوله: إنَّ هَؤلاَءِ لاَ يؤْمِنُونَ. ذكره الزمخشري. وأما قراءة النصب ففيها ثمانية أوجه:
أحدها: أنه منصوب على محل "الساعة" كأنه قيل: إنه يعلم الساعةَ ويعلم قِيلهُ كذا.
الثاني: أنه معطوف على "سرهم ونَجْوَاهم" (أي لا يعلم سِرَّهُمْ) ولا يعلم قيله.
الثالث: عطف على مفعول "يَكْتُبُونَ" المحذوف، أي يكتبون ذلك، ويكتبون قِيلَهُ كذا أيضاً.
الرابع: أنه معطوف على مفعول يعلمون المحذوف، أي يعلمون ذَلك (ويعلمون) قيله.
الخامس: أنه مصدر أي قَالَ قِيلهُ.
السادس: أن ينتصب بإضمار فعل، أي اللهُ يعلَمُ قيلَ رَسُولِهِ. وهو محمدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
السابع: أن ينتصب على محلّ "بالحَقِّ"، أي شَهِدَ بالحقِّ وبِقيلِه.
الثامن: أن ينتصب على حذف القسم، كقوله: "فَذَاكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ".
وقرأ الأعرج وأبو قِلابة، ومجاهد والحسن، بالرفع، وفيه أوجه: الرفع، عطفاً على "علم الساعة"، بتقدير مضاف، أي وعنده علم قِيلِهِ، ثم حذف، وأقيم هذا مُقَامه.
الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والجملة من قوله: "يَا رَبِّ" إلى آخره هو الخبر.
الثالث: أنه مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: وقيلهُ كَيْتَ وكَيْتَ مسموعٌ أو متقبلٌ.
الرابع: أنه مبتدأ أو صلة القسم، كقولهم: أيمُنُ اللهِ، ولَعَمْرُ اللهِ، فيكون خبره محذوفاً، والجواب كما تقدم. ذكره الزمخشري أيضاً. واختار القراءة بالنصب جماعة. قال النحاس: القراءة البينة بالنصب من جهتين:
أحدهما: أن التفرقة بين المنصوب، وما عطف عليه مُغْتَفَرةٌ، بخلافها بين المخفوض وما عطف عليه.
والثانية: تفسير أهل التأويل بمعنى النصب. كأنه يريد ما قال أبو عبيدة قال: إنما هي في التفسير أم يحسبون أنا لا نسمع وسرهم ونجواهم ولا نسمع قيله يا رب.
ولم يرتض الزمخشري من الأوجه المتقدمة شيئاً. وإنما اختار أن يكون قَسَماً في القراءات الثلاث. وتقدم تحقيقها.
وقرأ أبو قِلاَبَةَ: يا ربِّ بفتح الباء، على قلب الياء ألفاً، ثم حذفهنا مجتزئاً عنها بالفتحة كقوله:

4423ـ .............................. بِلَهْــفَ وَلاَ بِلَيْــتَ.................

والأخفش يَطْردُها.
قال ابن الخطيب ـ بعد أن حكى قول الزمخشري ـ: وأقول: الذي ذكره الزمخشري متكلفٌ أيضاً وها هنا إضمار، امتلأ القرآن منه، وهو إضمار اذكر، والتقدير في قراءة النصب: واذكر قيله يا رب، وفي قراءة الجر: واذكر وَقْتَ قِيلِهِ يا رب، وإذا وَجَبَ التزامُ إضمار ما جرت العادة في القرآن بالتزامه، فالتزام إضماره أولى من غيره. وعن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أنه قال في تفسير قوله: "وَقِيلِهِ يَا رَبِّ" المراد: وقيل يا ربِّ. الهاء زائدة.
فصل
القيلُ مَصْدَرٌ، كالقَوْلِ، ومنه الحديث:
"أنه نَهَى عن قِيلَ وقَالَ" . وحكى اللَّيْثُ عن العرب تقولُ: كَثُر فيه القِيلُ والقَالُ. وروى شَمِرٌ عن أبي زيد يقال: ما أحْسَنَ قِيلُكَ، وقَوْلُكَ، ومَقَالتُكَ، ومَقَالُكَ. والضمير في "وَقِيلِهِ" لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمعنى يعلم قَوْلَ محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاكياً إلى ربه، يا ربِّ إن هؤلاء قومٌ لا يؤمنون لما عرف إصرارهم، وهذا قريب مما حكى الله عن نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } [نوح:21] ثم قال: "فَاصْفَحُ عَنْهُمْ" أي أعْرِضْ عنهم، "وَقُلْ سَلاَمٌ" قال سيبويه: معناه المتاركة كقوله تعالى: { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } [القصص:55] ثم قال: "فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" والمراد به التهديد.
قوله: "فَسَوْفَ يَعْلَمُون" قرأ نافعٌ وابن عامر بتاء الخطاب التفاتاً، والباقون بياء الغيبة نظراً لِمَا تَقَدَّم.
فصل
قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما ـ) قوله: { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ } منسوخ (بآية) السَّيْفِ.
قال ابن الخطيب: وعندي التزام النسخ في مثل هذه المواضع مشكل؛ لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فسقطت دلالة اللفظ، فَأَيُّ حاجة إلى التزام النسخ، وأيضاً فاللفظ المطلق قد يقيَّد بحسب العُرْف، وإذا كان كذلك، فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ. والله أعلم بالصواب.
روى أبو أمامةَ عن أُبَيِّ بنِ كعب ـ (رضي الله عنهم ـ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأَ سُورة الزُّخْرُفِ كَانَ مِمَّن كَانَ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ: { يَا عِبَادِي لاَ خَوفٌ عَلَيْكُمْ اليَوْمَ ولا أَنَتُمْ تحزنونَ } ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِغَيْر حِسَابٍ" . (انتهى).