التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١٣
قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١٥
-الجاثية

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ... } الآية لما ذكر تعالى الاستدلال بكيفية جَرَيَان الفلك على وجه البحر؛ وذلك لا يحصل إلا بتسخير ثلاثة أشياء: أحدها: الرياح التي توافق المراد. وثانيها: خلق وجه الماء على المَلاَسَةِ التي تجري عليها الفُلك. وثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تَغْرقُ عنه. وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر ولا بدّ من موجود قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } إما بالتجارة وإما الغوص على اللؤلؤ والمرجان، أو لاستخراج اللَّحم الطَّرِيِّ.
قوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي خلقها مسخرة لنا. أي لنفعنا.
قوله: "جميعاً" حال من { ما في السموات وما في الأرض } أو توكيد. وقد عدها ابن مالك في أَلْفَاظِهِ و "منه" يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة لـ "جميعاً" وأن يتعلق "بسَخَّر" أي هو صادر من جهته ومن عنده. وجوَّز الزمخشري في "منه" أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُنَّ جَمِيعاً منه، وأن يكون { وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } مبتدأ و "منه" خبره. قال أبو حيان: وهَذَانِ لا يجوزان إلاَّ على رأي الأخفش، من حيث إنَّ الحال تقدمت يعني "جَمِيعاً" فقدمت على عاملها المعنوي يَعْنِي الجَار فهي نظير: زَيْدٌ قَائِماً فِي الدَّارِ والعامة على "مِنْهُ". وابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ بكسر الميم وتشديد النون ونصب التاء. جعله مصدراً مِنْ: "مَنَّ يَمُنُّ مِنَّةً" فانتصبا به عنده على المصدر المؤكد، وإما بعامل مضمر، وإما بسخَّر لأنه بمعناه. قال أبو حاتم: سند هذه القراءة إلى ابن عباس مظلم. قال شهاب الدين: قد رُوِيَتْ أيضاً عن جماعة جلة غير ابن عباس، فنقلها بن خالويه عنه وعن عُبَيْد بْنِ عُمَيْر ونقلها صاحب اللوامح وابن جني عن ابن عباس، وعبد الله بن عمرو والجَحْدَريّ وعبد الله بن عُبَيْد بن عُمَيْر. وقرأ مُسْلِمَةُ بْنُ مَحَارِب كذلك إلا أنه رفع التاء جعلها خَبَر ابْتداءٍ مضمر، أي هي مِنَّةً. وقرأ أيضاً في رواية أخرى بفتح الميم وتشديد النون و "ها" كناية مضمومة جعله مصدراً مضافاً لضمير الله تعالى. ورفعه من وجهين:
أحدهما: بالفاعلية بسَخَّر، أي سَخَّرَ لَكُمْ هَذِهِ الأشياءَ مَنُّهُ عَلَيْكُمْ.
والثاني: أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُو، أو ذَلِكَ مَنُّهُ عليكم إنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
قوله تعالى: { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } تقدم نظيره في سورة إبراهيمَ، قال ابن عباس: ـ رضي الله عنهما ـ المراد بالَّذِينَ آمنوا عمرُ بنُ الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يَغْفِرُوا لاَ يَرْجَونَ أَيَّامَ اللهِ يعني عَبْد الله بْنَ أُبَيِّ، وذلك أنهم نزلوا في غَزَاةِ بني المصْطَلَق على بئرٍ يقال لها: المريسيع فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه، قال له: ما حَبَسَك؟ فقال: غُلام عمر قعد على طَرف البئر، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَبَ النبي، وقُرَبَ أبي بكر، فقال عبد الله بن أُبَيٍّ: ما مِثْلُنا ومِثْلُ هؤلاء إلا كما قيل: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، فبلغ ذَلِكَ عُمَر، فاشتمل بسيفه، يريد التوجه (له) فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: إنَّ رَجُلاً من بني غِفار شتم عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب ـ (رضي الله عنه) ـ بمكَّةَ، فهم عمر أن يَبْطِشَ به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالعفو والتَّجَاوز، وروى مَيْمُونُ بْنُ مهرانَ أَن فِنحاصَ اليهوديَّ لما نزل قوله تعالى:
{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة:245] قال: احتاجَ رَبُّ محمَّد، فسمع ذلك عُمَرُ، فاشتمل على سيفه، وخرج في طلبه فبعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه فردَّه. وقال القُرظِيُّ والسُّدِّيُّ: نزلت في ناسٍ من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أهل مكة كانوا في آَذًى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنزل الله هذه الآية ثم نَسَخَتْهَا آيةُ القِتَال.
قال ابن الخطيب: وإنما قالوا بالنسخ، لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يَقْتلُوا ولا يقاتِلوا فلما أمروا بالمقاتلة كان نسخاً. والأقرب أن يقال: إنه محمول على ترك المنازعة، وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية وقوله: { لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } قال ابن عباس: لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية وتقدير تفسير "أيام الله" عند قوله:
{ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } [إبراهيم:5].
قوله: { لِيَجْزِيَ قَوْماً } قرأ ابن عامر والأَخَوَانِ: لنَجْزِي بنون العظمة، أي لنَجْزي نَحْنُ. وباقي السبعة ليَجْزِي بالياء من تحت مبنياً للفاعل؛ أي ليجزي اللهُ. وأبو جعفر ـ بخلاف عنه وشيبةُ وعَاصمٌ ـ في رواية ـ كذلك إلا أنه مبني للمفعول هذا مع نصب "قوماً". وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: ضمير المفعول الثاني، عاد الضمير عليه لدلالة السِّياق تقديره: ليجزي هو أي الخير قوماً والمفعول الثاني من باب أعطى، بقوم مقام الفاعل بلا خلافٍ، ونظيره: الدِّرْهَمَ أُعْطِيَ زَيْداً.
الثاني: أن القائم مقامه ضمير المصدر المدلول عليه بالفعل، أي ليُجْزَى الجَزَاءَ. وفيه نظر لأنه لا يترك المفعول به، ويقام المصدر، لا سيما مع عدم التصريح به.
الثالث: أن القائم مقامه الجار والمجرور، وفيه حجة للأخفش والكوفيين حيث يجيزون نيابة غير المفعول به مع وجوده وأنشدوا:

4441ـ ............................ لَسُبَّ بِذَلِكَ الجِـرْوِ الكِــلاَبَا

و:

4442ـ لَــمْ يُعْـــنَ بالْعَلْيَــاءِ إلاَّ سَيِّــدَا

والبصريون لا يُجِيزُونَه.
فصل
المعنى لكي نجازي بالمغفرة قوماً يعملون الخير.
فإن قيل: ما الفائدة من تنكير "قَوْماً" مع أن المراد بهم المؤمنون المذكورون في قوله: { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ }؟.
فالجواب: أن التنكير بدل على تعظيم شأنهم، كأنه قيل: ليجزِي قَوْماً وأَيّ قوم قوماً من شأنهم الصَّفْحُ عن السّيئات، والتجاوز عن المؤذيات، وتجرع المكروه، كأنه قيل: لا تكافئوهم أنتم حتى نُكَافِئَهُمْ نحن. ثم ذكر الحكم العام فقال: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون { وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } مثل ضربه الله للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }.